السلطة ورجالها في العالم العربي
السلطة السياسية ركن أساس من اركان الدولة فلا يمكن تصور وجود دولة أو كيان سياسي بدون سلطة سياسية بفروعها الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وفي الدول الديمقراطية وخصوصا الغربية منها تم الحسم في موضوع السلطة من حيث ماهيتها وطرق الوصول اليها حيث الشعب والقانون مصدر السلطات، كما أن تولي المناصب العليا في مواقع السلطة تخضع لآليات واضحة، حيث القيادات الرسمية: وزراء ونواب تشريعي وكل من يتولى منصباً سياسياً رفيعاً جاءوا عن طريق الانتخابات أو ضمن معايير قانونية وموضوعية، وحتى بعد تولي المنصب الرسمي توجد قوانين وآليات للرقابة والمحاسبة في حالة وجود أي تجاوزات حتى وإن كانت صادرة عن رئيس الدولة، كما أن الثقافة والوعي السياسي للشعب لا يسمحوا بكثير من التجاوزات والفساد وإن حدثت تبقى تحت السيطرة حيث الجهات الرقابية والقانونية في الدولة تتدخل بالإضافة الى قوة تأثير الرأي العام، وإن لم تتدخل فإن الوضع الاقتصادي يمكنه تحَمُل وجود بعض الامتيازات لرجال السلطة والطبقة السياسية وهي امتيازات ضرورية لضمان الولاء للدولة والنظام السياسي ولأن طبيعة عمل الطبقة السياسية تتطلب تميزها معيشياً عن عامة الشعب.
أما في الدول العربية فإن السلطة حالة ملتبسة من حيث ماهيتها وظروف تأسيسها ووظيفتها وعلاقتها بالشعب أيضا من حيث الوصول إليها والمحافظة عليها. إذا كان رجال السلطة في الدول الديمقراطية موظفون كبار في خدمة الشعب ولذا يحضون باحترام الشعب وهناك ثقة متبادلة بين الطرفين فإن رجال السلطة في غالبية الدول العربية غير محبوبين من الشعب وتنعدم الثقة بين الطرفين وذلك بسبب الطريقة التي وصلوا فيها للسلطة وغياب معايير النزاهة والشفافية في تعيينهم وتقديمهم مصالحهم الخاصة على المصلحة الوطنية.
طرق الوصول للسلطة في الحالة العربية متعددة منها التقليدية كالتوريث في الأنظمة الملكية، الانقلابات العسكرية، الثورات، وأحياناً يتداخل الانقلاب مع الثورة، وفي هذه الطرق يتم الوصول للسلطة بإزاحة جماعية لطبقة سياسية وحلول أخرى محلها، وبعض دهاقنة السياسة من المنافقين والانتهازيين ينقلون ولاءهم من نظام لآخر (مات الملك عاش الملك) وما أكثرهم في أيامنا هذه.
وهناك طرق للوصول للسلطة من خلال جهود شخصية وبغض النظر عن طبيعة النظام السياسي القائم. فالبعض حتى يصل إلى السلطة أو الموقع الذي يصبو إليه يلجأ لوسائل لا تمت للأخلاقيات والقوانين الناظمة والمطلوبة للعمل السياسي المحترم حيث يطبق القاعدة التي أسسها الفيلسوف الإيطالي نيكولاي ميكيافلي والتي تقول:(الغاية تبرر الوسيلة)، وبما أن الهدف بالنسبة له الوصول إلى السلطة لذاتها وما تجلبه من منافع شخصية وليس كوسيلة لخدمة الصالح العام فهو لا يتورع عن عمل أي شيء لتحقيق هدفه.
نمط من الناس يوسوس له شيطانه وينصحه قائلاً: حتى تصل إلى السلطة نافق الناس وجاملهم ومارِس الكذب دون حَرج، تظاهر بالتواضع والتدين أمام المتدينين وعامة الناس، وهاجم الدين والمتدينين أمام العلمانيين والحداثيين، نافق وامدح علناً كل من هو في السلطة وبرر ممارساتهم وهاجم خصومهم وفي نفس الوقت تآمر عليهم سرا إن استطعت وإن تطلب الأمر، أكثِر من الشعارات الكبيرة حول الوطنية والثورة والدين والأخلاق واذرف الدموع إن استطعت على حال البلاد والعباد، إلعب على كل الحبال بالتظاهر بأنك مع السلطة وضدها، مع المتدينين ومع العلمانيين، مع الفقراء ومع الأغنياء، ولكن احذر أن تمس رأس النظام مباشرة. أو المشاعر الدينية السائدة في المجتمع حتى وإن كنت غير راض عنها.
وفي بعض المجتمعات العربية ذات التعددية الطائفية أو العرقية، كلبنان والعراق، فيمكن الوصول إلى المواقع المتقدمة في السلطة وفي المشهد السياسي من خلال ركوب موجة التعصب الطائفي أو العرقي، ويبدأ بالبروز كزعيم في جماعته ولو على حساب وحدة الدولة والمجتمع ويتسلح بطائفته ليصبح زعيما وقائدا سياسيا، أما إن كان طالب السلطة والجاه أكثر ذكاء وأقل وطنية وأخلاقاً فأمامه طريقاً أقصر للوصول وهي التشبيك والتواصل مع جهة أجنبية لها تأثير ومصالح في البلاد.
ففي السنوات الأخيرة تجري عملية صناعة القادة بسهولة في العالم العربي، وكثير من القيادات البارزة في المشهد السياسي السلطوي هم صناعة أجنبية، إما جاؤوا على (ظهر دبابة) أمريكية وقد تكون فرنسية أو روسية أو إيرانية أو اخونجية أو إسرائيلية، أو صيَّرتهم قادة ماكينة انتخابية في ديمقراطيات شكلية يتحكم بها المال السياسي وبربوغندا فضائيات ووسائط تواصل اجتماعي موجهة وممولة جيداً، أو بوضع ملايين الدولارات تحت تصرفهم لشراء الموالين والأتباع وذمم الناس، أو ركوب موجة التدين السياسي وادعاء النيابة عن الله ورسوله في تدبير شؤون العباد وخصوصاً إن كان الخطاب الديني مشفوعاً بالمال والسلاح.
بعد أن يصل بسلامته إلى مواقع السلطة ويصبح صاحب السعادة والمعالي ولأنه جاء بطريقة غير نظيفة وغير شرعية، فإنه يقلب ظهر المِجَن للشعب ويتنكر لكل شعاراته ووعوده، فلا يتردد بقطع صلته بمن كانوا أقرب الناس إليه ويتعالى عليهم إن طالبوه بالوفاء بوعوده، وما أن يتمكن من موقعه ولأنه يعرف أن وجوده في السلطة لن يدوم والشعب سرعان ما يكشفه ويأتي انتهازي آخر ليحل محله فإنه يبدأ بالسرقة وتجميع المال بكل الوسائل وتجهيز محل إقامة خارج البلاد.
بشكل عام وبغض النظر عن طبيعة النظام السياسي وطريقة الوصول إلى السلطة فإن تولي منصباً سياسياً كبيراً له فوائد شخصية وله أضرار في نفس الوقت، الفوائد المادية للوزير أو النائب التشريعي أو القائد العسكري أو الأمني وكل من يتولى منصباً كبيراً قد تكون بالنسبة للبعض أهم من الفوائد المعنوية كالمكانة الاجتماعية والشهرة مع اعتقادنا بصعوبة الفصل بين الأمرين حيث تجلب المكانة الاجتماعية والسياسية الثروة وهذه الأخيرة تجلب المكانة الاجتماعية والسياسية، والأمر يختلف من شخص لآخر ومن دولة لأخرى حسب الثقافة المجتمعية، أما الأضرار فمتعددة من معنوية حيث كل من يتولى منصباً وخصوصاً في العالم العربي بما فيه الحالة الفلسطينية يكون عُرضة للاتهام بالفساد والمحسوبية والتخلي عن مبادئه بل والخيانة وأحياناً يتم تكفيره الخ، وأحياناً تكون الأضرار أكثر خطورة في المجتمعات غير المستقرة سياسياً واجتماعياً أو تشهد حروبا أهلية حيث يكون المسؤول وعائلته عرضة للاغتيال.
تلعب الثقافة المجتمعية والسياسية دوراً في تَشَكُل نظرة الشعب للمسؤول، فحتى وإن كانت المكاسب والامتيازات من حقه قانوناً كالرواتب المرتفعة نسبياً والحياة المرفهة فإن عامة الناس لا يتقبلون هذا التمييز، وكأنه مطلوب من المسؤول أن يعيش حياة عامة الناس فيأكل أكلهم ويلبس لباسهم ويسكن مثلهم، بينما لا ينظر عامة الناس نفس النظرة لرجال الأعمال والتجار الكبار والسماسرة وكل من ينتمي للطبقة الغنية في المجتمع حتى وإن كانت مصادر أموال هؤلاء غير مشروعة.
في الحالة الفلسطينية وفي زمن الثورة والنضال كانت القيادات السياسية والعسكرية صناعة وطنية خالصة وكان دور الجهات الخارجية محدوداً ومن تفرضه هذه الجهات لاعتبارات أيديولوجية أو مالية أو نتيجة تواجد الثورة في بعض الدول كان دوره هامشياً، ولكن مع قيام السلطة الفلسطينية واعتمادها مالياً على الجهات المانحة وما تفرضه عليها اتفاقية أوسلو من التزامات سياسية وأمنية واقتصادية أصبحت الجهات الخارجية تؤثر في صناعة القيادات السياسية والأمنية، ونظراً لما تتعرض له السلطة من ضغوطات إسرائيلية وخارجية فإن حالة ضعف تنتاب قدرتها على الرقابة والمحاسبة للمسؤولين السياسيين وللأحزاب وقادة مؤسسات المجتمع المدني، حتى مع وجود مؤسسات رسمية للرقابة ومكافحة الفساد.
أما السلطة في قطاع غزة وكيف جرى تأسيسها ومن يتولى أمرها من قيادات أمنية وسياسية وعلاقاتها مع الخارج الخ فهي حالة ملتبسة من حيث علاقتها بالسلطة الوطنية ومن حيث مصادر تمويلها وامتيازات رجالها ، وإن كانت سلطة حركة حماس تقول بحيازتها شرعية دينية ودستورية بالإضافة إلى شرعية المقاومة إلا أن مجريات الأحداث والواقع الراهن يُشير إلى تآكل كل هذه الشرعيات.