هناك حد للتطرف الإسرائيلي
بعد أقل من شهر على إعلان الحكومة الإسرائيلية اليمينية الجديدة، اضطر رئيسها بنيامين نتنياهو إلى إقالة وزير الداخلية والصحة آرييه درعي، وذلك بعد تدخل المحكمة العليا برفضها ذلك التعيين على خليفة إدانة درعي وسجنه قبل نحو عشرين عاماً، بتهم جنائية لها علاقة بالفساد، تحول دون تسلمه وفق القانون الإسرائيلي المنصب الوزاري، كان ذلك رغم محاولة الائتلاف عبر تشريع ينقض ذلك القانون، ويسمح لدرعي وربما أيضاً نتنياهو نفسه لاحقاً، بدخول الحكومة، وهذا يعتبر أول إخفاق لحكومة نتنياهو السادسة، التي تعتبر أكثر حكومات إسرائيل يمينية وتطرفاً، وقد حدث ذلك بعد يومين فقط من إصدار وزير الدفاع يوآف غالانت قرارا عسكريا بإزالة البؤرة الاستيطانية "أور حاييم" التي أقامها المستوطنون على عجل مساء الخميس الماضي على أراضي قرية جوريش شرق نابلس، وقد تعارض ذلك مع قرار للوزير في وزارة الجيش، المسؤول عن الإدارة المدنية فيها، وزير المالية بتسئليل سموتريتش، الذي كان قد أمر بوقف عملية الإخلاء حتى يوم الأحد الماضي، يوم جلسة الحكومة، لكن بأمر وزير الدفاع الليكودي تم إخلاء البؤرة فعلا، حيث اعتبر سموتريتش ذلك الأجراء مخالفا للاتفاقيات الائتلافية بين الصهيونية الدينية والليكود.
وبغض النظر عما قيل حول أسباب قرار غالانت، حيث أرجع ذلك المراقبون لزيارة كان قام بها مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان لإسرائيل طالب خلالها الحكومة الإسرائيلية بعدم اتخاذ أية قرارات أحادية الجانب، وعدم تعريض حل الدولتين للتقويض، إلا أن ذلك يعني بأن الحكومة الإسرائيلية الحالية قد شهدت أول خلاف علني بين شركاء الائتلاف، وأن التعارضات ورغم عدم كونها جوهرية أو أساسية تجاه الاحتلال والاستيطان، أو الملفات السياسة بشكل عام، إلا أنها تعني خاصة في ظل الضغط الفلسطيني والإقليمي والدولي، بأن هناك حداً للتطرف الإسرائيلي، الذي لا يمكن اعتباره مطلق السراح تماماً، أو أنه يمكنه أن يفعل ما يحلو له، أو كل ما يخطر بباله، وأن يتصرف وفق هواه، دون حدود وبشكل مطلق، أما السؤال الأهم هنا فيتعلق بمستقبل هذه الحكومة، الذي يبدو، وكما أشرنا في مقال سابق، بأنه ليس معبداً بالورد، وأن بقاء الحكومة المتطرفة مدة أربع سنوات قادمة، رغم قاعدتها البرلمانية المريحة، ليس مضموناً، بل إنه بات مرهوناً أولاً بالحراك المعارض داخلياً، وهو مهم بالنظر إلى التظاهرات المتواصلة للأسبوع الثالث على التوالي، ضد تقويض القضاء وضد تحويل الدولة لدولة شريعة، المترافق مع استمرار معارضة كل من يائير لابيد وبيني غانتس لسياسات الحكومة وارتفاع عقيرتهما ضد ما تعلنه من مواقف الأول فيما يخص المجتمع الإسرائيلي والثاني فيما يخص مكانة الجيش، وثانياً بالضغط الخارجي الفلسطيني والإقليمي والدولي.
أما نتنياهو الذي انحاز لوزير الجيش باتخاذه قرار إخلاء مستوطنة "أور حاييم"، فقد قال إنه مع الاستيطان ولكن وفق القانون، أي قانون الاحتلال، ووفق التوصيات الأمنية، بما يعني بأن نتنياهو تحت الضغط، أقله ضغط الليكود نفسه، يمكنه أن يجعل من اتفاقه الائتلافي مع الشركاء مجرد تحايل منه، نجح خلاله في تشكيل الحكومة، بعد أن استنفذ وقته، وأن مواصلة ابتزاز الشركاء المتطرفين له ولليكود، يمكن أن تصطدم بطموحات قادة الليكود أنفسهم، فقد دافع غالانت عن صلاحياته، فيما يعتبر الجيش مع القضاء من أهم مؤسسات الدولة الإسرائيلية التقليدية منذ إنشائها، ويمكنهما مع المعارضة السياسية والشعبية، أن يقصفا رقبة الائتلاف الحاكم، فيما يعتبر التطرف الطريق الأقصر لدى الطامحين بالوصول إلى الحكم خاصة من اليمين، وهذه الحقيقة تأكدت منذ مناحيم بيغين مرورا بارئيل شارون، ونفتالي بينت، وحتى نتنياهو نفسه، حيث لوحظ بأن رؤساء حكومات اليسار كانوا دائما ذوي خلفيات أمنية (لم ينجح شمعون بيريس المدني لأنه كان أقل من رابين العسكري)، فيما اعتمد رؤساء حكومات اليمين على التطرف طريقا لوصولهم للمنصب.
بعد اضطرار نتنياهو إلى إقالة درعي، ينتظر الجميع رد فعل حزب شاس، الشريك في الحكومة، وحيث أن نتنياهو قد حمى نفسه، بالقضاء، فهذا يعني بأن نتنياهو وحتى الليكود، يتخذان موقفاً وسطياً ينتظران فيه نتيجة المعركة بين القضاء والحريديم فيما يخص السياسة الداخلية، التي يسعى عبرها الحريديم إلى تعزيز الطابع والجوهر الديني للدولة، وبين الجيش والصهيونية الدينية، على اعتبار أن ما منحه نتنياهو لكل من سموترتيش وبن غفير، قد كان على حساب صلاحيات ونفوذ الجيش والشرطة في الأرض الفلسطينية المحتلة، وبذلك يتجنب نتنياهو والليكود الدخول في معركة مع الشركاء يمكن أن تهدد الائتلاف، وتقصر من عمر الحكومة.
لكن لا يمكن التعويل على قدرة القضاء وحده على حسم المعركة مع الحريديم، ولا على قدرة الجيش على إدخال بن غفير وسموترتيش بيت الطاعة للدولة ممثلة بمؤسسة الجيش، وكان سموترتيش قد قال رداً على غالانت بأن لإسرائيل جيشاً وليس العكس، أي أن على الجيش أن يخضع للحكومة لا أن تخضع الحكومة للجيش، وفي هذا انقلاب على ما اعتادت إسرائيل عليه من إعلاء للشأن الأمني، بالتحديد التقارير الأمنية خارج الاعتبارات السياسية، وفي كل الأحوال يمكن القول بأن هناك مخاضاً داخلياً إسرائيلياً، وهناك صخب داخلي، وخلافات غير معتادة، حيث لم يقتصر التراشق بين الحكومة والمعارضة، داخل الدائرة السياسية، وكل هذا يحدث، ولم تقدم إسرائيل بعد على مواجهة استحقاق كبير حاسم، لا داخلياً ولا خارجياً.
لكن يمكن ملاحظة أن اليمين المتطرف بعد أن وصل شريكاً أساسياً في الحكم، يحاول أن يكون مقرراً، وأن يقود إسرائيل إلى الإقدام على كسر قواعد اللعبة السياسية الحالية، بحسم بعض ملفاتها، والأهم منها بالطبع هو ملف الاحتلال، بفرض الضم كحقيقة واقعة، وتحويل الاحتلال إلى أمر طبيعي وأبدي، وقد اتخذت هذه الحكومة أول قرار لها بهذا الصدد، من خلال المصادقة على القرار العنصري الخاص بسريان القانون الإسرائيلي على المستوطنين المقيمين على الأرض الفلسطينية دون الفلسطينيين، بعد أن كانت أحزابه قد عطلت العمل به خلال الحكومة السابقة، بما أدى لسقوطها، كذلك يتسابق أعضاء الليكود في إظهار انحيازهم للاحتلال والاستيطان، لكنهم يظهرون مقارنة باليمين المتطرف "اعتدالاً"، للإبقاء على تحالفهم مع الولايات المتحدة وشركاء السلام العرب.
بتقديرنا، أن اليمين المتطرف سيظل يشد الحبل الداخلي إلى آخره، خاصة باتخاذ كل ما يقدر عليه من قرارات تقوض السلطة الفلسطينية، فكل من سموترتيش وزير المال وبن غفير وزير الأمن القومي الداخلي، لن يتوقفا عن إصدار القرارات وفق صلاحياتهما ضد السلطة والشعب الفلسطيني، الأول من خلال إضافة سطو مالي على السطو الحالي، بما يزيد من الضغط على الحكومة الفلسطينية، ليس لجهة أن تبقى غير قادرة على دفع فاتورة الرواتب كاملة، بل إلى ما قد يضطرها إلى مزيد من انتقاصها، وحتى تعجز عن تغطية الخدمات الأساسية، في محاولة لدفعها للسقوط، والآخر بدفع حرس الحدود للاستمرار في ممارسة القتل اليومي، للزج بالأرض الفلسطينية إلى حريق إجباري، لذا فإنه من الضروري بمكان أن تتقاطع كل حلقات الخصوم، داخل وخارج إسرائيل لوضع حد نهائي للتطرف في الحكومة الإسرائيلية، والسعي فعلياً لعدم الاكتفاء بإخراج درعي منها، حيث لا يمكن لأحد داخل إسرائيل وخارجها احتمال التعايش مع بن غفير وسموتريتش، وذلك للإبقاء على بصيص أمل الحل السياسي، وإحلال السلام في الأرض المقدسة وعموم الشرق الأوسط.