من المحرقة اليهودية إلى المحرقة الفلسطينية وانتقال الضحية إلى دور الجلاد!
روت استر راب احدى الناجيات من الابادة الجماعية التي ارتكبها الرايخ الثالث بحق اليهود في العقدين الثالث والرابع من القرن الماضي ، والتي اطلق عليها "الهولوكست"، والتي كانت ضمن مجموعة من السجناء في محتشد "سوبيبور" في بولندا ، كانوا قد خططوا للثورة والهروب ، عام 1943 ، وكانت من بين الذين تمكنوا من الهرب والبقاء على قيد الحياة ، كيف فتح الحراس الألمان النيران على السجناء ، الذين عجزوا عن الوصول إلى البوابة الرئيسية للمعسكر ولهذا كان عليهم محاولة الهروب عبر حقل الألغام الموجود حول المحتشد ، وتمكن ما يقرب من 300 شخص من الهرب ، وأعيد أسر ما يزيد عن 100 شخص منهم واعدامهم باطلاق النار عليهم ، غيرالذين انفجرت تحت اقدامهم الالغام .
على الجانب الاخر يروي الحاج محمد رضوان ، احد الناجين الفلسطينيين من مذبحة قرية دير ياسين غرب القدس والتي ارتكبتها العصابات الصهيونية فجرالتاسع من نيسان 1948 واستمرت حتى الواحدة بعد الظهر، وذلك بعد يوم واحد على استشهاد القائد عبد القادر الحسيني في معركة القسطل ، كيف تعرضت بلدته لأبشع مذبحة ، حين قتلت العصابات الصهيونية زمثلت بجثث الاهالي ، واصفا ما جرى بانه "شيء تأنف الوحوش نفسها ارتكابه ، مستذكرا كيف أتى القتلة بفتاة فلسطينية واغتصبوها بحضور أهلها ، ثم بدؤوا بتعذيبها وألقوا بها في النار، كما شوهوا جثث الشهداء وبتروا أعضاءهم، وبقروا بطون الحوامل " .
وعن الحادثة ذاتها ، يصف احد من شاركوا بالقتل وهواليهودي زفي انكوري ، وهو الذي أمر وحدة الهاجاناه التي احتلت قرية دير ياسين بعد المذبحة وقدم بيانا في العام 1982 حول المذبحة ، ونشر في صحيفة دافار الاسرائيلية في نيسان 1982، قال فيه : "دخلت من 6 إلى 7 بيوت في دير ياسين ، رأيت أعضاء تناسلية مقطوعة وأمعاء نساء مسحوقة . طبقا للإشارات على الأجسام ، لقد كان هذا قتلاً مباشرًا" .
ومن الاعمال النازية البشعة ما يرويه بنيامين بيد والذي الذي تمكن من الهرب متظاهرا انه غير يهودي ونجا من الابادة الجماعية التي ارتكبت في حي فارصوفيا اليهودي في بولندا عام 1943 نتيجة لثورة اليهود في حينها المشاهد البشعة التي تعرض لها اليهود والجثث المتفحمة جراء احراقهم بالغاز .
وعلى الجانب الاخركتب المؤرخ الفلسطيني أميررصرص ابن قرية الفالوجة المهجرة عام 1948 ، والذي كان شاهدا على ارهاب العصابات الصهيونية بحق اهالي بلدة الدوايمة في 29 تشرين ثاني 1948 التي لجأ اليها بعد الهروب من مذبحة قريته على يد العصابات الصهيونية وقتل المئات من المواطنين الامنين العزل ، طالت نساء واطفال حاولوا الاختباء باحدى المغارات دون جدوى . بقوله : "مكثنا في تلك القرية (الدوايمة) لأخذ استراحة ، كان يوم الجمعة ، أذن المؤذن للصلاة ، واصطف الرجال للصلاة ، وعندها هاجمتنا احدى العصابات اليهودية ، بالرصاص الحي، والقنابل، فقتل من قتل ، ونجا من نجى " .
وتحدث رفيق شلش احد الناجين من مذبحة قلقيلية التي ارتكبت في تشرين اول من العام 1956 حين هاجمت كتيبة الموت رقم 101 بقيادة أرئيل شارون في جيش الاحتلال الإسرائيلي والذي كانت نواته العصابات الصهيونية قبل الاعلان عن قيام ما يسمى " دولة اسرائيل " ، المدينة بقوله :" اتذكر هذه المذبحة ، وكأنها وقعت خلال أيام ، فالمشهد لا يمكن نسيانه ولولا أننا انتقلنا من المركز الذي كانت تديره القوات الأردنية الى مكان قريب منه لأصبحنا في عداد الشهداء الذين ذبحوا من قبل القوات التي دخلت من خلال ما يعرف بخط الهدنه مما يسمى "كيبوتس كوفيش" ومنطقة الطيرة في المثلث وراح ضحيتها أكثر من 70 شهيدا من النساء والاطفال وسط ظلام الليل وهدم مسجد و41 بيت وخزان مياه وقتل عائله كامله هي عائلة عبد المنعم قادوس المكونة من 12 شهيد..
لا يمكن التشكيك في ان اليهود كانوا قد تجرعوا ألم الاضطهاد النازي ، كما كانوا قد واجهوا من قبل التطيهر العرقي في القرن الخامس عشر حين احتقرتهم الكنيسة بعد ازدياد نفوذها وسقوط الحكم الاسلامي في الاندلس الذي ازدهرت فيه حياتهم ، ومورست شتى اشكال التعذيب بحقهم من قبل ما اطلق عليه " محاكم التفتيش الاسبانية والبرتغالية " ما اضطر الكثير منهم الى الهجرة الى اوروبا وافريقيا والشرق الاوسط واحتضنتهم الدولة العثمانية واصبح لهم بعض من النفوذ لدى بلاط الباب العالي ، كما جرى احتضانهم في البلدان العربية ومنها فلسطين .
الا ان ما تعرض له اليهود من اضطهاد لم يكبح طمعهم وجماحهم في محاولات السيطرة على ارض الغير وسط تأييد غربي متعاطف معهم ، وتعطشهم لقتل الاخرين نزولا عند مصالحهم ، فالشواهد كثيرة فيما واجهه الشعب الفلسطيني - الذي كان قد احتضنهم وقت محنتهم وآواهم من الاضطهاد - وما زال يواجهها حتى اللحظة ، وما يكنوه في صدورهم ، اخرجوه ، بمجازرمماثلة كتلك التي تعرضوا لها بالماضي ، لدفع الفلسطينيين الى الهجرة عن وطنهم والاستيلاء عليه وبناء دولتهم الزائفة محاولين اقناع العالم ان فلسطين ارض بلا شعب لشعب بلا وطن !!
فما ان وطأت اقدام اليهود ارض فلسطين اوائل القرن الماضي وحتى الان ، نفذوا ، ممثلين : اما بدولة اسرائيل او الحركة الصهيونية او المنظمات الارهابية التابعة لها كالارجون او الاشتيرن او الهاجاناه ، مجازر لا تعد ولا تحصى ومنها فاق ما تعرض له اليهود على يد النازية او محاكم التفتيش الاسبانية والبرتغالية ، طالت البشر والحجر ودور العبادة .
ومن احدث الشواهد ما تعرضت له مدينة ومخيم جنين عامي 2002 و 2023 حيث جثث متفحمة وقتل مباشر لم يقتصر على الرصاص انما استخدم جنود الاحتلال الاسرائيلي صواريخ الانيرجا الحارقة ، وفي رواية لجندي اسرائيلي يدعي موشيه نسيم ، شارك بمجزرة مخيم جنين عام 2002 عبر عن اسفه " لعدم تدميرالمخيم بالكامل وقتل من فيه "، وذلك من ضمن شهادات جمعت في كتاب " جنين في ابريل " الصادر في باريس عن دار "لاديكوفارت" والذي يعتمد أساسا على شهادات ناشطين غربيين واسرائيليين قاموا بعدة زيارات إلى الأراضي الفلسطينية تعبيرا عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني وكانوا من أوائل الذين دخلوا المخيم بعد المواجهات التي شهدها وكذا شهادت جنود اسرائيليين ممن شاركوا باقتحام المخيم حينه .
ويتابع الجندي نسيم في شهادته : " لم يكن يرف لي جفن وأنا أدمر منازلهم وافتخر انني عملت 72 ساعة دون توقف على تدمير المنازل وآسف لأنني لم أدمر كل شيء". موشيه نسيم كان يتحدث باستمتاع ممسكا زجاجة الويسكي بيده ، حسب ما ورد في الكتاب .
لقد استخدم جيش الاحتلال الدبابات والطائرات الحربية ، ومدافع مضادة للطائرات ، ومركبات مدرعة مزودة بمدافع رشاشة ، مقابل سلاح خفيف وسلاح أبيض بحوزة المدافعين الفلسطينيين وقام بتدمير المنشآت السكنية ، وكافة المرافق الحيوية ومنها ما يتبع للأونروا كالمركزالصحية ومنع إسعاف الجرحى والمرضى ، واقدم على إعدام مدنيين في أزقة المخيم ، طالت اطفال ووشيوخ ونساء ورجال عزل .
من هذا السرد وهو غيض من فيض ، تكاد تتضح العلاقة بين الضحية والجلاد حسبما أشار ابن خلدون في مقدمته : " الى اعجاب الضحية بجلادها ، وتماهي سلوكه مع افعال القوي وسلطته ، كنوع من الافتتان به ، وتبني ثقافته ، التي تشتمل على قيم القهر ". وهنا تتوارد اسئلة عدة تطرح نفسها بقوة في ظل الصراع المتأجج على الارض الفلسطينية وتزايد اعمال القتل والترويع : هل حقا يمكن للضحية ان يصبح جلادا ؟ لماذا يصر اليهود الذين كابدوا في وقت ما وتعرضوا لجرائم تندى لها البشرية ، على ارتكاب جرائم مماثلة بحق شعب كان آمنا في وطنه ، واحتضنهم وآواهم ذات مرة من الاضطهاد ، والقائمة طويلة من ثمانين سنة الى يومنا هذا ، ولسنا هنا بصدد ذكر جميع المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال بحق المدنيين ، على سبيل المثال اعتداءاته الهمجية على قطاع غزة وغيرها من المدن الفلسطينية ؟ لماذا يصر اليهود على اعتبار انفسهم خارج كوكب الارض وينأون بانفسهم خارج دائرة البشرية ويؤكدون على نظرة العالم لهم بالافساد في الارض ؟ الا يستخلص اليهود العبر مما تعرضوا له من كراهية على مر التاريخ ويستبدلونها بمحبة وسلام وتعايش مع الاخرين ؟ لماذا يقتل اليهود من يقاومهم لاسترداد حقوقه السليبة ، ويروعون ويعتقلون ويهدمون ويتهمون من يعاديهم بمعاداة السامية ؟ ووووو ؟ وهم فيما سبق قاوموا من اضطهدهم ؟ الا يفترض في من تعرض للاضطهاد ان لا يمارسه بحق الاخرين ؟ لماذا الاصرار على تعميق حجم الكراهية ، بينما بالمستطاع استبدالها بالمحبة ، فيما لو توفرت الارادة الحقيقية للاعتراف بحقوق الغير والتعايش المشترك ؟ الا يدري المتطرفون منهم ان لكل فعل رد فعل مساو له بالمقدار ومعاكس له بالاتجاه ؟ هل بالامكان ايجاد قواسم مشتركة من كل جانب تقوم على الاحترام المتبادل وعدم انكار او التنكر للاخر للعيش بكرامة وحرية ؟
وربما هناك الكثير من الاسئلة ، ولكن حتى اللحظة لا اجد قواسم مشتركة بين الجانبين سوى المحرقة ، محرقة تعرض لها اليهود وكانوا ضحية ، واخرى ارتكبها اليهود الذين كانوا في وقت ما ضحية ، بحق شعب آمن اعزل ، لا ذنب له سوى انه فلسطيني رفض التخلي عن حقوقه ، ويحرص ساسة اليهود على اختلاق الاكاذيب لتبرير ممارساتهم ، في محاولة لاستجداء الرأي العالم العالمي وابتزاز شعوب العالم ومواصلة التباكي بالاستمرار بالظهور بمظهر الضحية ، ومع ذلك فقد اصطدمت الاطماع اليهودية الاسرائيلية التوسعية بصخرة الاصرار الفلسطيني على التمسك بالحقوق الوطنية المشروعة والاستمرار في المقاومة بشتى الوسائل المتاحة وصولا الى دحر الاحتلال واسترداد الارض المغتصبة ونيل الحرية باقامة الدولة المستقلة وعاصمتها الابدية القدس الشريف والعيش بكرامة .
ولعل قوافل الشهداء الطويلة في مسيرة الكفاح الفلسطيني ، واحدثهم عدي التميمي وخيري علقم ومن سبقهم ، ومن سيلحق بهم من اجيال ، وقوافل الاسرى ومنهم من تنسم الحرية بعد عقود طويلة قضاها خلف قضبان الاحتلال وانتزع النهار بارادته الصلبة وايمانه بحقوقه المشروعة من عتمة السجان ، ككريم وماهر يونس ، لم ولن تثنيهم عن مواصة المسيرة ، وكذا الصمود الاسطوري في جنين ونابلس وغزة وارجاء الارض الفلسطينية ، ما هو الا تعبير واضح لا لبس فيه ، عن الرفض المطلق للاحتلال وممارساته التعسفية واجراءاته العقابية وقتله للابرياء من ابناء وطنهم . من كل بد سيدرك الاحتلال في نهاية المطاف ان الشعب الفلسطيني كطائر العنقاء والفنينيق يخرج من بين الرماد اكثر عنفوانا وقوة وماض في مسيرته حتى النصر .