سـوريـة لـيـسـت وحـيـدة
بدت ازدواجية المعايير الدولية ولاإنسانيتها بشكل جلي خلال الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسورية خلال الأيام الماضية من جهة توزيع المساعدات وتقديم العون للمنكوبين. فالعالم المتحضر الذي تقوده أميركا ينأى بنفسه عن تقديم يد العون للمنكوبين السوريين لأنهم يعيشون في سورية فيما يهرع العالم لتقديم يد العون للمنكوبين في تركيا، وبذلك يدفع الضحايا السوريون فاتورة موقف الغرب من الدولة السورية وفاتورة كونهم مواطنين سوريين. أي ازدواجية هذه وأي أخلاق غائبة تلك. لا أخلاق في السياسة ربما، لكن لا يمكن نزع الإنسانية من تصرفاتنا كبشر.
في سورية، وبسبب الحصار الذي يفرضه الغرب على الدولة السورية و»الخربطة» التي تتم ومحاولات شق القطر العربي فإن دخول المساعدات سيعتبر تجاوزاً للحصار، لذلك لا احد يجب أن يحاول أن يساعد حتى لا تنهار كرامة من يفرض الحصار ومن يريد للدولة السورية أن تتفكك. ليس من المعقول أن يعاني المواطنون لأن هناك إرادات دولية تقرر أن يتم الاستمرار في تدمير بلد رغماً عن سكانه. الأمر محزن، سورية تقف وحيدة في مواجهة الدمار الذي ضرب شمالها وحوله إلى ركام ويعيش مواطنوها تحت حكم المتمردين في بعض المناطق لا يقدرون على تقديم العون لأهلهم ولا لجيرانهم بسبب شح الإمكانيات وقلة المصادر. الناس يموتون ولا أحد يستطيع إنقاذهم ولا أحد يتدخل من أجل تقديم المساعدة.
الزلزال الأعنف خلال قرن من الزمن، أودى بحيوات الآلاف في جنوب تركيا وفي شمال سورية. قوة الزلزال أشد في تركيا حيث خلف أكثر من عشرين ألف قتيل، وفي سورية يتم البحث عن المفقودين تحت الأنقاض في عمليات بطيئة بسبب شح الإمكانيات وقلة الدعم اللوجستي، وعلى ما يبدو فإن أعداد الضحايا في سورية قد تتزايد إذا ما تم البحث بطرق أفضل وباستخدام معدات أكثر تقدماً حيث ثمة الكثير الذين يرقدون تحت الركام ولا يجدون من يعثر عليهم بسبب الإمكانيات القليلة.
لا احد يعرف تحديداً متى ستنتهي عمليات الإنقاذ ولا أحد يعرف حقاً كم سيبلغ عدد الضحايا ولا احد حتى يعرف متى سيتوقف الزلزال بشكل كامل، وعليه فإن البحث عن نهاية المصائر الدموية لهذا الزلزال يصعب التفكير فيها في هذه اللحظة. ستمر الأيام وسيكون هذا الزلزال جزءاً من ذاكرة شعوب المنطقة عن غضب الطبيعة وعن قسوة الواقع حين تحدث. ومثل كل قرن من الزمن، هناك ذاكرة معتمة في بانوراما الزمن المتقلبة. لكن أيضاً سيظل هناك من يعاني لسنوات بسبب الفقد والألم والحزن الذي ينتج عن ذلك. كما سيظل البعض يعاني أكثر التبعات الاقتصادية المريرة التي نجمت. وفيما ستتعافى تركيا بطريقة أسرع بسبب قوة الاقتصاد التركي وتدفق المعونات والمساعدات فإن جراح سورية ستتعمق أكثر مع تواصل محاولات تدمير القطر السوري ومنع المساعدات عنه بحجة الحصار الذي يجب أن يتم الحفاظ عليه.
تم ترك سورية وحيدة تلملم جراحها وتلعقها بصمت لأن إرادة المجتمع الدولي فوق إنسانية الكوارث ومشاعر سكان الكوكب. بالطبع، سكان العالم لا يوافقون على ما يقوم به قيادته. وفي وقت الأزمات، يجب وضع التصورات والخلافات جانباً والوقوف بجانب الضحايا مهما كان موقفنا من الدول والنظم السياسية. ولكن للأسف، العالم لا يسير هكذا. العالم يسير وفق المصالح وليس وفق المشاعر والإنسانية. لنتذكر أن واشنطن حركت جيوشاً من اجل احتلال دول تحت ذريعة التدخل الإنساني. تمت صياغة منظومات دولية متكاملة تعتمد على وجوب التدخل الإنساني لحماية المواطنين أو لتقديم العون لهم في أوقات مختلفة سواء كانت بحجة الدول الآيلة للسقوط أو بحجة حماية البعض من ديكتاتورية بعض الأنظمة. بكلمة أخرى، أباحت واشنطن لنفسها طوال أربعة عقود من الزمن أن تحتل دولا وتمزقها أرباً وتقسمها إلى أقاليم من أجل التدخل الإنساني الذي لم يكن أكثر من بدعة من بدعها من أجل تنفيذ سياستها في بعض الدول وبالتالي تحقيق مصالحها. كان التدخل الإنساني اختراعاً يتناسب مع انتهاء الحرب الباردة ورغبتها بمواصلة تدخلاتها في العالم تحت حجج مختلفة. من هناك تحركت الجيوش الأميركية من آسيا إلى أفريقيا إلى أوروبا الشرقية وقت انهيار نظمها الاشتراكية. لم يتوقف الجندي الأميركي عن إطلاق النار حتى تظل القلعة الأميركية فوق التلة والناس تنظر إليها برهبة.
وباستثناء فلسطين وبعض الدول العربية، لم يقم أحد بمساعدة سورية. وحين تفعل فلسطين ذلك فإنها تقوم أولاً بواجبها القومي الذي يرتكز على التكامل والتعاضد مع الدول العربية كافة، بجانب أن الوقوف إلى جانب سورية هو وقوف إلى جانب النفس وانحياز للقيم وللأخلاق وللحق. ومهما كانت الظروف فإن شعبنا الفلسطيني الذي عانى من الوحدة ومن الخذلان ومن ترك إخوة يوسف له يعرف جيداً أن الإرادة والصمود هما أساس البقاء مهما كانت فداحة الخسائر. وعليه، فسورية ليست وحيدة، وهي ليست وحيدة ليس برغبة واشنطن ولا الغرب الذي أباح لنفسه أن يكون قيّماً على الأخلاق وحارساً لغابة يأكل فيها القوي الضعيف ولا يتم ترك فسحة لأي أمل للضعفاء. سورية ليست وحيدة لأن ثمة من يدرك بأن سلامة سورية من سلامة فلسطين، وأن المصير العربي لا يمكن أن يتجزأ.
في المحصلة، سيمر الزلزال وسيواصل الذين فقدوا أحباءهم نحيبهم، وستظل سورية تعاني الكثير وسيظل الجواب المفقود حول استعادة «العافية السورية» مثل كابوس يلاحقنا فلو أن أحداً يريد مصلحة سورية فهذا الوقت الأنسب لتناسي الخلاف وعودة كل سورية إلى الدولة التي هي ضمان ليس بأشخاصها بل بما تمثله من نظم ومؤسسات وميراث سياسي وسياساتي لاستقرار الحياة واستقرار البشر. سينتهي كل شيء وتعود الحياة إلى طبيعتها لكن من فقد إنسانيته وقرر أن يتنازل عنها سيظل يوصم بذلك أبد الدهر.