القدس مركز الصراع ومركز الزلزال ومنها الشرارة
لمن يريد أن يقرأ، ولمن يريد أن يعدّ نفسه للمرحلة القادمة، ولمن يريد أن يستبق الأحداث قبل أن تسبقه ويضطر إلى اللهاث خلفها، ولمن "يرغب" في المساهمة الفاعلة فيها، ولمن لديه الوعي والإرادة والعزيمة للالتحام بها، فإن القدس هي حاضنة هبّات وانتفاضات وعواصف قادمة، منها الشرارات وهي النموذج، وهي الطليعة والقدوة.
منها سيأتي المدد، وإليها ستتجه الأنظار، وعقارب البوصلة.
المؤشّرات الأولى، والإرهاصات الأولى تقول إن الأمر لم يعد "مجرّد" عمليات، وليس مجرّد "ذئاب"، وليس بضع خلايا "نائمة".
والمؤشّرات الجديدة تقول إن الفعل الشعبي يتقدم، والمشاركة الشعبية تتعاظم، والأشكال الكفاحية تتصاعد وتتنوّع.
حاولت إسرائيل أن تعزو الوضع المتفجّر في القدس إلى وجود "بعض" الشباب المتحمّس، وممن ليس لهم أسبقيات أمنية بحكم صغر أعمارهم، وهي تحاول عبر ماكينتها الإعلامية أن تصور لنفسها أن المزيد من الإجراءات القمعية كفيل بردع هذه الظاهرة، و"دشنت" هجومها بالقانون الأخير حول الأسرى من القدس والداخل، وشرعت بدخول عشرات البيوت، تكسيراً ونهباً وقمعاً ضد كل من يمتّ بأي صلة لأي أسير وبأثرٍ رجعي.
فماذا كانت النتائج الأولى لهذه الهجمات الصهيونية على المدينة وضواحيها وقراها؟
كانت النتيجة الأولى هي الاستجابة الفورية والمباشرة للدعوات إلى عصيانات مدنية، وخرج آلاف الشباب إلى الشوارع، والمسألة ما زالت في بداياتها الأولى ليس إلّا.
ماذا يعني ذلك كله في حقل القراءة السياسية؟
لمن يريد أن يقرأ فإن هذا كله يعني أن كل "العمليات" التي كانت القدس وضواحيها مركزها الأهم والأكبر لم تكن سوى إرهاصات أولية لهبّات شعبية ستتراكم في المدينة وضواحيها، وستمتد إلى "السهل" الفلسطيني كله.
وهذا يعني أن المسألة هي أن الشرارات على سطح الواقع ليست سوى بداية "الجمر واللهب" الذي يرقد تحت الرماد. وهذا يعني أن الشكل الجديد للكفاح الوطني ليس تقليدياً بأي حال، وليس تكراراً لنماذج سابقة، وهو على الأغلب ما زال في طور التفكير والابتكار.
قلنا في مقال سابق إن الانتفاضة القادمة سيكون فيها بعض من سمات الانتفاضة الوطنية الكبرى العام 1987، وبعض من سمات الانتفاضة الثانية، ولكنها على ما يبدو حسب المؤشرات الأولية سيكون لها من السمات ما هو خارج دائرة التوقع والتخمين المسبق.
خذوا على سبيل المثال ظاهرة أو مظهر العصيان المدني.
في الانتفاضة الوطنية الكبرى تبلور هذا الشكل في مرحلة معينة، ولم يكن منذ البداية، والعمليات العسكرية لم تسبق تلك الانتفاضة، وكان هذا الشكل حالات معينة، وليس شاملاً، وفي الانتفاضة الثانية كانت المشاركة الشعبية هي السمة الغالبة في مراحلها الأولى، لكنها سرعان ما "تعسكرت" وأصبح الشكل العسكري هو مظهرها الأهم، وتراجع منسوبها الشعبي تماماً في مراحلها الأخيرة التي سبقت الاجتياح الاحتلالي.
في الانتفاضة الأولى كان للفصائل الوطنية الدور الأهم ليس في تفجرها، وليس في قيادتها منذ البداية، وإنما في "السيطرة" عليها ومحاولة التحكم بها، وفي "إعادة" توجيه دفّتها على مقاس الاستثمار السياسي لها.
في الانتفاضة الثانية كانت الفصائل في مقدمتها منذ البداية، وكانت "الرسمية" الفلسطينية، والفصائلية السياسية هي من رعاها و"خطّط" لها، وانخرط فيها، وربما انجرّ إلى بعض أشكالها، وخصوصاً التركيز أحياناً، عن سابق "تفكير" على استهداف المدنيين الإسرائيليين بصورة ملموسة ومحدّدة ومقصودة تماماً، مع أن الأمر لم يخلُ من عمليات عسكرية ناجحة للغاية ضد الجيش الاحتلالي تحديداً.
نسوق هذه الملاحظات الأولية ليس في إطار محاكمة التجربة، لأن هذه المحاكمة جرت، وتم الغوص فيها في عشرات، إن لم نقل المئات من الدراسات والأبحاث والندوات والمؤتمرات، وإنما بهدف التأكيد على أن أي هبّة أو انتفاضة هي البنت الشرعية للظروف الملموسة التي تولد فيها.
ما كان يجب أبداً أن نعتقد لأي سبب كان أن ما يجري من إرهاصات ومن مقدمات لانتفاضة جديدة باتت على الأبواب يمكن أن تتراجع بسبب عدم وجود مركز قيادي محدد لها، وما كان يجب أن نعتقد لأي سببٍ كان أن "العمليات الفردية" هي "الشكل" الأهم لما هو قادم، أو الأنسب في مواجهة الاحتلال، أو الوحيد الذي سيبقى لفترة طويلة قادمة، لأن إسرائيل نفسها وصلت إلى مرحلة من أزمتها يستحيل حلها أو محاولة حلها إلّا بدماء الشعب الفلسطيني، وعلى أنقاض حقوقه الوطنية، وأهدافه وقضيته وهويته وروايته، وذلك لأن المشروع الصهيوني نفسه أعلن الحرب على الشعب الفلسطيني، على كل الشعب الفلسطيني، وفي كل المجالات، وعلى كل الجبهات، وعلى مختلف المستويات، وبكل السبل والوسائل، وبأي ثمن.
باختصار هذه هي المرة الأولى منذ قيام إسرائيل ومنذ النكبة وحتى اليوم تعلن فيها إسرائيل الحرب الشاملة على كل فلسطين، تاريخاً وحقوقاً ووجوداً، حاضراً ومستقبلاً.
لم يعد هناك من كوابح أو تحفّظات، أو موانع أو معيقات من وجهة نظر المشروع الصهيوني لإعلان هذه الحرب ضد شعبنا.
وهم "على قناعة" بأن هذه الحرب "مصيرية" بالنسبة للمشروع الصهيوني، وإن لم يحسم اليوم فلن يحسم غداً، ولن يحسم أبداً.
صحيح أن القوى "اليمينية" الأكثر تطرفاً وعنصرية وفاشية هي التي تتصدر هذا المشهد الصهيوني، لكن الصحيح، أيضاً، أن القاسم المشترك الوحيد والأعظم بين هذه القوى، وبين غالبية قوى المعارضة الصهيونية هو (التوافق) على هذه الحرب الحاسمة، وعلى هذه الدرجة بالذات وتحديداً من المصيرية.
لن نربح هذه الحرب بالضربة القاضية، ولكن المشروع الصهيوني سيخسرها بالضربة القاضية.
عندما سيفشل المشروع الصهيوني في تصفية القضية الوطنية الفلسطينية، وسيفشل حتماً، وينهار هذا القاسم المشترك الأعظم بين مكونات هذا المشروع، حينها لن يتبقّى أمام هذا المشروع سوى الانهيار الكبير، لأن السبب الوحيد لبقاء هذا المشروع حياً وفاعلاً وقادراً يكون قد "سلّم" الراية موضوعياً للصراع الداخلي، والاقتتال الداخلي، والاحتراب الكبير بين القوى الليبرالية الإسرائيلية التي ما زالت تمثل جوهر الدولة العميقة في إسرائيل، وبين القوى القومية والدينية والفاشية الجديدة التي تخوض معركة حياة أو موت فيها، والتي تستعجل إعلان الحرب على الشعب الفلسطيني.
هذا زمن لم تعد تنفع معه المناورات والتذاكي، ومواقف (التمترس في الوسط، والدفاع عن الغلط)، لأن المشروع الصهيوني يحاصر هذا كله، ويطبق بكلتا يديه على رقاب الجميع، ولن يترك لأحد حرية الاختيار سوى الاختيار بين الخضوع الكامل أو الحرب بكل ضراوتها، وبكل أشكال العنف والقمع والحصار، وصولاً إلى الترحيل.
الانتفاضة القادمة أصبحت على الأبواب، وهي ستفرز قياداتها وأشكالها ووسائلها، وستفرض نفسها على الخارطة السياسية وعلى الخارطة الجغرافية التي تشمل فلسطين، وستنتقل رويداً رويداً إلى "العواصم" كلها، وإن غداً لناظره قريب!