ما لا ينبغي تناسيه وغض النظر عنه..!!
كما أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، فإن الدول لا تحيا بوسائل القوّة المادية وحدها. فثمة حاجة دائمة، ولا غنى عنها، لوجود رواية (سردية) من نوع ما تبرر الوجود، والغاية. هذا أمر معقّد بالنسبة للإنسان، كما للدول، يمتزج فيه الواقعي بالمُتخيّل. لن نتوقف عند رواية الإنسان، فكل ما يعنينا، الآن، التفكير في حاجة الدول إلى وجود روايات تخصها، ومدى ما تفرض الحاجات، وتقلّبات الأيام، من تعديلات على جوانب لم تعد صالحة للتداول. وقد تؤدي في حالات معيّنة إلى طرد رواية بعينها، وابتكار بديل لها.
أهم معيار لقوّة الدولة هو قدرتها على إقناع مواطنيها بالموت في سبيل «الوطن» (الأصح في سبيلها). لذا، يصعب اقناع مواطنيها بأمر كهذا ما لم تتوفر في روايتها الخاصة العناصر الكافية للإقناع. وهي مطلوبة، أيضاً، لإقناع مواطنيها بحقها في تمثيلهم، واتخاذ قرارات تتعلّق بالحياة والموت نيابة عنهم، إضافة إلى دفع الضرائب، والخضوع للنظام العام.. الخ.
وفي سياق كهذا لا تختلف رواية الدولة الإسرائيلية عن غيرها إلا في تضخّم الحقول الرمزية لمفاهيم من نوع الوطن، والتضحية، والتمثيل، والنظام العام. وهذه الأشياء كلها إشكالية مرتين: مرّة لأنها في طور التكوين، لم تستقر تمثيلاتها النهائية بعد، ومرّة لأنها تمتاز بخصوصيات، وتناقضات، يصعب العثور على مثيلاتها في روايات دولانية أُخرى.
والمهم، في هذا الشأن، أن نحتفظ في الذهن بحقيقة ينطلق منها هذا التحليل، ويسعى للتدليل عليها، وتتمثل في القول إن الرواية الإسرائيلية التقليدية، التي تبلورت عناصرها الرئيسة في زمن سبق قيام الدول نفسها، وتجلت بعد قيامها كغطاء أيديولوجي في علاقاتها الدولية، وكعامل موّحَد، وموَحِد، في مجتمعها، وتفاعلها مع يهود العالم، صارت تعاني من اختلالات بنيوية ومفاهيمية إلى حد تبدو معه غير صالحة للتداول بشكل مطرد في العقود القليلة الماضية.
يصعب اختزال الرواية الإسرائيلية التقليدية، فمنها ما يخص تاريخ اليهود واليهودية، وطريقة الصهيونية في إعادة إنتاج هذا وذاك بمفردات جديدة. وهذا لا يهم الآن. فما يعنينا يتمثل في تحوّلات المجتمع والدولة الإسرائيليين. فقد كان من الشائع، دائماً، الكلام عن التناقض بين المتدينين والعلمانيين في إسرائيل، ولكن في تظاهر عشرات الآلاف من الإسرائيليين منذ عودة نتنياهو إلى الحكم، وتشكيل حكومة توصف بالأكثر يمينية في تاريخ الدولة، ما يوحي بخلل طرأ على العقد الاجتماعي، وتصدّعات أصابت بنية النسيج، الاجتماعي، ومُثله التوحيدية، بشكل غير مسبوق.
ومنشأ الخلل، هنا، خشية المتظاهرين، وهم نصف السكّان اليهود تقريباً، أن «إسرائيلهم المثالية» ربما كفت عن الوجود، بينما تحفل إسرائيل اليومية، والواقعية، بساسة لا يعنيهم مصير الدولة بقدر ما يعنيهم مصيرهم الشخصي، وإلى جانب هؤلاء، وبهم ومعهم، تصعد قوى وشخصيات لا تبحث عن تحسين موازنات، أو تقليص ضرائب، أو اعفاء من هذه الخدمة أو تلك، بل تبحث عمّا يمكنها من إعادة تشكيل الدولة والمجتمع من جديد.
ولأن شخصاً بعينه يخشى أن يُحكم عليه بالسجن، صار في وسع آخرين (اليمين القومي – الديني في أكثر تجلياته تطرفاً) استغلال فرصة كهذه لتغيير المجتمع والدولة معاً، وبطريقة جذرية أيضاً، تكون فيها الأولوية للشريعة اليهودية، وتأويلاتها وتمثيلاتها القومية والشعبوية. وهذا يعني، في التحليل الأخير، وضع مصير الدولة نفسها على المحك. ولم يكن لهذا أن يحدث دون وجود قاعدة اجتماعية لهؤلاء.
والمشكلة، في هذا الشأن، أن الصراع مع الفلسطينيين لا يبدو جزءاً من الصراع الإسرائيلي - الإسرائيلي على حاضر ومستقبل المجتمع والدولة. وبالقدر نفسه، فإن إنجازات نتنياهو في العلاقة مع الإبراهيميين لا تبدو سبباً كافياً في نظر معارضيه لغفران ما ارتكب من خطايا وأخطاء يحاسب عليها القانون. يدرك الإسرائيليون في قرارة أنفسهم أنهم أقوياء، وأن الكلام عن المخاطر الوجودية ينتمي إلى رواية لم يعد في الواقع ما يبررها.
ثمة الكثير من الأسباب التي تفسّر غياب الصراع مع الفلسطينيين عن صراع يعيشه الإسرائيليون حول حاضر ومستقبل المجتمع والدولة في آن. يصعب التنبؤ بنتيجة الجولة الحالية. ولكن الميزان الديمغرافي يميل لصالح المعسكر القومي – الديني في مستقبل غير بعيد.
على أي حال، وعلى الرغم من تعدد الأسباب التي تفسّر غياب الفلسطينيين عن صراع كهذا، فإن جانباً منها يقع على عاتق الفلسطينيين أنفسهم. والمقصود، هنا، أن ثمة ضرورية حيوية، وأهمية فائقة، لفهم حقيقة ما يجري في المجتمع الإسرائيلي في هذه اللحظة بالذات، لأنها مصيرية وحاسمة. وبالتالي بلورة سياسات تمكّن من الانفتاح على، والحوار مع، معارضي اليمين القومي – الديني، لا لإيجاد قواسم مشتركة محتملة وحسب، بل ولإعادة الصراع مع الفلسطينيين إلى متن صراع الإسرائيليين على حاضر ومستقبل المجتمع والدولة، أيضاً.
ثمة علاقة عضوية بين الأمرين. وعلاوة على هذا وذاك، تطال النتائج المباشرة، وغير المباشرة، لصراع كهذا حاضر ومستقبل الفلسطينيين، والصراع في فلسطين وعليها، أيضاً. وهذا ما لا ينبغي تناسيه وغض النظر عنه.