أفكار من خارج الصندوق
في الوقت الذي فاض فيه كيل الاحتلال وظلمه وتوحشه عن كل حد، بات من المتعذر على الشعب الفلسطيني العيش مع سطوة الاحتلال بالنسخة الكهانية العنصرية التي تسعى إلى حسم السيطرة على الشعب وتدمير حقوقه الوطنية المشروعة وحقوقه المدنية والإنسانية.
لا يمكن التعويل على الوعود الأميركية والإقليمية التي تعمل بسقف تهدئة الأوضاع كما جاء في بيان العقبة بمعزل عن حل سياسي ينهي الاحتلال، سبق للرئيس بايدن أن تعامل مع المطلب الفلسطيني بحل سياسي كمهمة مستحيلة، وأحال تنفيذها إلى السيد المسيح أثناء زيارته لمدينة بيت لحم.
كما يلاحظ، قد يحتاج نتنياهو إلى تهدئة الوضع الفلسطيني فترة زمنية محدودة ليتسنى له تنفيذ الانقلاب القضائي والإفلات من المحاسبة والعقاب، وبعد ذلك يمضي في موجات الاستيطان والمحو والضم.
ضمن المعادلة الإسرائيلية الدولية والإقليمية فإن أقصى ما قد يتمخض عن مساعي أقطابها هو الحفاظ على الأوضاع كما هي عليه، بمعنى بقاء الاحتلال الذي يتعمق باستيطان زاحف، وبمواصلة تدمير مقومات الحل السياسي الذي تقبل به أكثرية الشعب الفلسطيني.
كان الرد الفلسطيني الرسمي على الخطر المصيري غير مقنع ولا يرقى إلى مستوى قطع الطريق على الخطر، تكرار نفس الخطاب الداعي إلى مؤتمر دولي أو عودة للمفاوضات برعاية دولية، بمعزل عن بناء عناصر قوة، باستثناء الاستقواء بعضوية مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة وبمحكمتي العدل والجنائية الدوليتين، والاستمرار في عرض قضايا الاستيطان وجرائم الحرب، مع أن ذلك يتعرض إلى ضغوط وابتزاز ومساومات.
إن أهم عنصر في قطع الطريق على الخطر الذي يهدد المصير الوطني الفلسطيني هو الطاقة الشعبية التي أصبحت منفصلة إلى حد كبير عن المستوى السياسي، وأصبحت تعبر عن اعتراضها على الأمر الواقع بظواهر الطعن والدهس وإطلاق نار وكلها أعمال فردية غير منظمة، وقد تطور عمل الأفراد إلى عمل مجموعات مسلحة صغيرة وكبيرة. ولوحظ أن وجود هذه المجموعات "الكتائب والعرين" تحظى بتأييد وتعاطف شعبي له مدلول رافض للأمر الواقع الذي يفرضه الاحتلال، ولا يرغب في استمرار العجز الذي تجسده السلطة ومنظمة التحرير وتنظيماتها.
استقطاب واستجابات جديدة منطقية من زاوية رفضها للأمر الواقع الاستعماري العنصري، ولكنها لم تدخل في عملية تغيير الواقع الراهن الشق الأهم من المعادلة.
في الانتفاضة الأولى حدث انفجار شعبي تعبيراً عن رفض الواقع، وقبل أقل من شهر تشكل جهاز سياسي إداري حوّل الانفجار إلى انتفاضة لها أهداف ملموسة، وحدد أسلوب نضال يستوعب فئات واسعة من المجتمع، وأقام جسوراً مع العالم ومع داعمين إسرائيليين لحق الشعب الفلسطيني في الخلاص من الاحتلال وتقرير المصير.
في الانتفاضة الثانية طغت العسكرة على المشاركة الشعبية التي أخلت المكان للعمليات الاستشهادية ومعظمها ضد أهداف مدنية، ما أدى إلى توحيد المجتمع الإسرائيلي ضد الحقوق الفلسطينية، وأدمج التحرر الفلسطيني بالإرهاب على صعيد كوني، وجرى اغتيال عرفات وتغيير وظائف السلطة بتدخل أميركي أوروبي مباشر، فضلاً عن تبرير بناء جدار التوسع والضم والفصل العنصري. على صعيد سياسي تنازع الانتفاضة الثانية المسلحة اتجاهان سياسيان، اتجاه سياسي امتطى المغامرة العسكرية لتحسين شروط المفاوضات المتوقفة، وكانت نتيجة المغامرة خروج عرفات من المعادلة السياسية. واتجاه حماس التي أسهمت بعملياتها الاستشهادية في شطب الجانب الاستقلالي للسلطة والسعي لوراثتها. كانت تجربة الانتفاضة المسلحة مليئة بالاختلالات التي لم يتم نقدها وتجاوزها ما فتح المجال أمام تكرارها.
تكرار الأخطاء عاد مع ظاهرة الكتائب المسلحة، والطرف الذي كرر الأخطاء هو التنظيمات التي تحاول ركوب الموجة ورد الفعل التلقائي للشبان المسلحين. ولم تجب عن سؤال: هل يمكن اعتماد المقاومة المسلحة كشكل رئيس للنضال الوطني في شروط القبضة الأمنية الإسرائيلية وفي ظل استجابة أميركا وأوروبا لابتزاز الحكومة الإسرائيلية حول الأمن ؟ إذا كان الجواب نعم، لماذا تستمر الهدنة، ولا تحاول التنظيمات المسلحة المبادرة إلى المقاومة ومساعدة مئات الشبان على الانتقال من حالة المقاومة المرتجلة التي تفتقد إلى - تدريب وخبرة عسكرية وخطط وقواعد العمل السري والعلني - إلى حالة المقاومة المنظمة التي تأخذ بقواعد الخصائص المتناقضة بين المحتلين والمقاومين.
لا توجد صعوبة في القول إن الشكل الرئيس للنضال الوطني هو الانتفاضة الشعبية وصولاً إلى العصيان المدني وإن المقاومة المسلحة تستخدم فقط للدفاع عن المواطنين في مواجهة العدوان والإعدامات الميدانية. ولا يعني تحويل المقاومة إلى مواجهة عسكرية وقصف متبادل غير متكافئ، وما يسمى توازن الرعب مع أحدث الجيوش في العالم.
إن الحديث عن كفاح مسلح شامل ونفير مسلح عام دون توفر أو بناء مقومات يندرج في باب المغامرة غير المحسوبة التي تودي بحياة الشبان أو تزجهم في السجون دون ثمن.
سؤال كيف نوقف استباحة المستوطنين للأرض وللمواطنين على حد سواء؟. كيف يمكن وقف استباحة جثامين الشهداء، واستباحة أموال المقاصة، واستباحة إنجازات الأسرى، وممارسة التطهير العرقي وهدم المنازل، واستصدار قوانين عنصرية وفاشية. أولاً، لا يمكن الجمع بين هذه الاستباحات والتنسيق الأمني. الجمع بينهما يعني توفير السلطة لغطاء فلسطيني للاستباحة الإسرائيلية. في الوقت الذي يبرر فيه وجود السلطة بالدفاع عن شعبها وتأمين الحماية السياسية والمعنوية والمادية له، قد تفشل السلطة في تأمين الحماية ولكن بعد المحاولة مرات ومرات، لقد هدمت السلطة الاستعمارية قرية العراقيب 212 مرة ولكن الأهم هو محاولة المواطنين بناءها 212 مرة وهذا يعني أن إرادة البناء أقوى من إرادة الهدم.
إن وقف التنسيق الأمني واجب ومطلب وضرورة، بمثل ما هو تأمين الحماية والدفاع عن المواطنين في مواجهة الاستباحات واجب كل عنصر وكل كادر من عناصر وكوادر الأمن الفلسطيني ومطلب كل الشعب الفلسطيني.
كان لافتاً تساؤل الصحافية الإسرائيلية عميرة هس في "هآرتس": لماذا لم يشارك الأمن الفلسطيني في حماية حوارة من حريق المستوطنين، وأجابت بالقول: لا يستطيع هؤلاء الذهاب بأسلحتهم وبزيهم العسكري إلى مناطق الاعتداءات. لكنهم يستطيعون الدفاع عن المواطنين وهم بزيهم المدني. نعم يستطيعون التحول إلى نشطاء مدنيين في كل مكان يعملون يداً بيد مع مواطنيهم وتأمين مستوى من الحماية. لماذا تلتزم السلطة باتفاق أوسلو من طرف واحد.
يجب قلب المعادلة من الصيغة الإسرائيلية التي تريد أمناً فلسطينياً قامعاً لشعبه، إلى الصيغة الفلسطينية: أمن فلسطيني مدافع عن شعبه، عندما تقلب المعادلة لا خوف ولا ما يحزنون.