متى نُصدّق أنّ الوضع في إسرائيل على مُنحدَر خطير؟
مقالات

متى نُصدّق أنّ الوضع في إسرائيل على مُنحدَر خطير؟

مباشرةً، بُعيد الانتخابات الإسرائيلية، وخصوصاً بعد تشكيل حكومة الثلاثي العنصري، والذي يجاهر بفاشيته على رؤوس الأشهاد، ظهرت في إطار "بانوراما" الرؤى والقراءات والتحليلات الفلسطينية عدّة آراء بعضها يتعارض، أو يتناقض مع بعضها الآخر.
فهناك من "رأى" أن مجيء هذه الحكومة هو مجرّد تبديل وتداول بين مؤسسات صهيونية، لا يهمها في الواقع إلّا كرسي "السلطة"، نافياً أن يكون هناك في الواقع الجديد ما يستحقّ الانتباه الخاص.
وهناك من "رأى" بالمقابل، أو بالتناقض والتعارض مع ذلك أن هذا التبدّل وهذا التداول، حتى وإن كانت له أهمية معينة فإنه لن يمسّ "النظام السياسي"، أو لن يكون له أي تأثير على "الدولة العميقة" في إسرائيل، وهو في مطلق الأحوال لن يمسّ بالمطلق مؤسسة الجيش (البقرة المقدّسة)، ولا مؤسسات الأمن، وأن كل ما سيجري حتى على مستوى مؤسسات القضاء هو لتفادي محاكمة بنيامين نتنياهو أو لإعادة "شرعنة" آرييه درعي، أو أشياء من هذا القبيل.
قلّة قليلة فقط في إطار هذه البانوراما رأت أن الأمر أخطر وأكبر من ذلك، وأننا أمام انقلاب كبير، وأمام أزمة بلغت حدود التهديد الوجودي، بسبب استعصاء الحل، وبسبب أن كل محاولة للحل ستفشل واحدةً تلو الأخرى بالشروط "الديمقراطية"، وأن كل "الحلول" الممكنة أصبحت تنتقل من طورٍ إلى آخر، ليس من شأن تطورها سوى مفاقمة الأزمة وتحويل هذه الأزمة ودخولها في خانة الحل المستحيل.
النخب الفلسطينية، الرسمية والحزبية شبه الرسمية، وحتى بعض المثقفين والنشطاء السياسيين والكتّاب حتى عندما كانوا يتحدثون "لماماً" عن عمق هذه الأزمة كان همهم وتركيزهم على الموقف الصهيوني، الواحد الموحَّد من حقوق الشعب الفلسطيني، وعلى "الإجماع" العام على تصفية هذه الحقوق (وهذا ليس عيباً بحدّ ذاته)، متناسين أو متجاهلين، أو غير مدركين للبعد الداخلي في هذه الأزمة، والذي يطال كل الموقف الصهيوني، ويهدد المجتمع الذي تشرف على إدارته كل المؤسسات الصهيونية، ويتحول "الآن" إلى تهديد وجودي بإقرار واعتراف قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي، ومن نخبه وقياداته السياسية والاجتماعية والثقافية، وصولاً إلى مؤسسة الجيش، ومؤسسات الأمن، ونهايةً بالمؤسسات الاقتصادية نفسها.
لو عدنا الآن إلى جذر الأسباب التي تحول دون الإدراك "المبكّر" لأزمة كهذه، على هذا المستوى من الخطورة والمصيرية فسنجد الكثير، الكثير من هذه الأسباب، ولعلّ بعضها، إن لم نقل غالبيتها هو أحد عناوين الأزمة الفلسطينية نفسها.
علينا أن نعترف بذلك، وعلينا أن نرى ذلك بكل وضوح.
لم يعد في المؤسسات الفلسطينية من يعرف حقاً خارطة الصراع الداخلي في المجتمع الإسرائيلي، ولم يعد في هذه المؤسسات قيادات تهتم بأن تعرف أكثر وأبعد من التنافس السياسي الحزبي، الذي نعرفه، وكنّا نعرفه على مدى عقود وعقود، وتحول الاهتمام كله في الواقع إلى مراهنة هنا وتعويل هناك، وإلى لقاء هنا ونقاش هناك، وإلى "استثمار" في مرحلة، و"استثمارات" أخرى في مراحل أخرى.
وسواء تعلّق الأمر بدوافع سياسية لأغراض "الاستفادة" منها في إطار المراهنات على حلول سياسية "ممكنة"، أو تعلّق بدوافع مناقضة لها كليا، أو بدوافع "دينية" ما بين المنزلتين فقد أدّى ذلك كلّه إلى اقتصار الفهم الفلسطيني في كل هذا الواقع على معالجات "كاريكاتورية" لطبيعة الصراع في المجتمع الإسرائيلي.
هذا كلّه ليس مستغرباً، وليس ممكناً أن يكون مختلفاً بصورة خاصة أو نوعية.
مرةً سألتُ أحد أساتذتي: ما الذي يفسّر بقاء تروتسكي عضواً في المكتب السياسي للحزب البلشفي، طالما أننا نقول كلّنا "الآن" إنه ومنذ العام 1903 أظهر ميولاً انتهازية؟!
ردّ عليّ أستاذي (يوناني الأصل) قائلاً: "سأُجيبك عن هذا السؤال لاحقاً، تعالَ إلى مكتبي".
وفعلاً ذهبت إليه، وكان هذا الأستاذ ناشطاً أو قائداً في حركة المقاومة اليونانية ضد الفاشية، وقد فقد كل أصابع يديه أو معظمها.
قال لي: "اسمع يا رفيق (وكان جوابه يحمل معنى: اسمع يا بُنيّ): "إذا لم تكن خلفية سؤالك "تحريضية"، فإن سؤالك هو سؤال مهمّ. والإجابة عنه هو أن المكتب السياسي الذي تتحدث عنه كانوا مجموعة العلماء، وكان بعضهم ليس عالماً فقط وإنما خبيراً متخصّصاً، أيضاً".
أسوق هذا الكلام لكي أوضح أننا فقدنا العلماء في المؤسسة الفلسطينية الرسمية والحزبية وشبه الحزبية، ولم يعد لدينا خبراء.
كان لدينا مثل هؤلاء ــ على سبيل المثال ــ كان الشهيد خليل الوزير "أبو جهاد" خبيراً بكل المعاني فيما يتعلق بالصراع، وكان الشهيد صلاح خلف "أبو إياد" كذلك، وكذلك الشهيد كمال عدوان من الخبراء، وكان خالد الحسن (رحمه الله) من العلماء والخبراء في آنٍ معاً، وكان الشهيد ياسر عرفات "أبو عمّار" يستعين بالعقول من كل المنطقة، وكانت لدينا مؤسسات بحثية جادّة تقدّم لنا (الطبيخ البيتي) وليس الوجبات الجاهزة، وكان لدينا عشرات العلماء والخبراء، منهم ما زالوا على قيد الحياة مثل (صبري جريس وعبد الحفيظ محارب وآخرين).
الثنائي (الصايغ) مَعلماً من معالم الوعي والرقيّ الفلسطيني، كان إدوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد، وكان لدينا خبراء في السياسة والإعلام كـ(غسان كنفاني)، وكان لدينا مراكز بحث وتخطيط ودراسات.
لم يعد لدينا من هذه المؤسسات سوى الهياكل، ولم يعد لدينا من هؤلاء سوى القليل النادر.
حتى الآباء الملهمون رحلوا دون أن نجد من يُكمل طريقهم في حالة الإلهام والوعي والقدوة.
ولولا بعض الترجمات التي يُتاح لنا "التعرُّف" على بعض جوانب المجتمع الإسرائيلي من خلالها، ولولا مؤسسات قليلة مثل "مدار" والتي تعتبر بكل المقاييس صرحاً بحثياً مهمّاً في هذا المجال، لكنّا نعرف عن "إسرائيل" ما يكتب "العرب" عنهم، ولولا القيادات الوطنية في "الداخل" لكانت معرفتنا بالمجتمع الإسرائيلي حتى الآن معرفة سطحية.
لا أُنكر أنّ الحسّ السياسي حيال الصراع داخل المجتمع الإسرائيلي كان موجوداً، وأن بعض جوانب هذه الأزمة التي تعصف به الآن قد جرى التنبّه لها، والتنبيه لها. لكن الحسّ السياسي لا يكفي أبداً، وهو لا يكفي مطلقاً في ظروف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تحديداً.
بأي معنى مثلاً بعضنا يقول إن هذا الصراع هو شأن "داخلي" إسرائيلي لا علاقة لنا به؟
هل ضمّ الضفة الغربية شأن داخلي إسرائيلي؟ هل حرق "حوّارة" هو، أيضاً، كذلك؟ هل "أرض إسرائيل الكبرى" هو شأن إسرائيلي خاص؟
هل اعتبار الاستيطان المهمّة المركزية للحكومات الإسرائيلية هو شأن داخلي؟
هل وجود أكثر من مليوني فلسطيني في "الداخل" هو شأن إسرائيلي خاص؟
أو هل هو شأن حصري لحكومات الاحتلال والعنصرية؟
ثم ماذا عن إعلاناتهم على القنوات الفضائية عن الإمارات السبع، وبتعيين "المشايخ" في هذه الإمارات؟ ماذا عن الدعوات للاعتراف العلني والرسمي بـ"إمارة غزّة" على طريق الاعتراف بـ"الإمارات" المنوي تجهيزها؟
ماذا عن عشرات المقالات والدراسات و"الإجراءات" التي يتم الحديث عنها علناً حول "خلافة أبو مازن، ومرحلة ما بعد أبو مازن؟".
وكيف يمكن الحديث عن مشروع وطني تحرّري مع دولة وجيش ومشروع صهيوني يعلن جهاراً نهاراً أنه سيصفي حقوقنا وكأنّ هذا الإعلان شأن داخلي إسرائيلي؟
ثم أين هي قوى "اليسار" من "رصد" هذا الذي يجري في إسرائيل وتتبع حركة هذا الصراع، طالما أن هذا الصراع يدخل في صُلب مخططات تصفية حقوقنا وأهدافنا ووجودنا، أيضاً؟ وطالما أن هذا "اليسار" يؤمن بوجود مثل هذا الصراع، ولا "يرى" المجتمع الإسرائيلي ككتلة صمّاء؟
ولماذا يتحرك المجتمع الدولي تخوفاً وتحذيراً من "الانقلاب" الإسرائيلي في حين تنتظر القيادات الفلسطينية نتائج هذا الانقلاب على رؤوسنا؟
وإذا كانت المسألة كلها هي شأن داخلي إسرائيلي لماذا لا نقاطع بالكامل الحكومة الإسرائيلية العنصرية، ولماذا لا نشارك في عزلها وفضحها بدلاً من إبقاء قنوات من الاتصال معها؟
ولماذا يصل إلى قطاع غزة المندوب السامي القطري ليتأكد بنفسه، عن السير السليم للتفاهمات كلها، وخصوصاً الهدوء الشامل؟
وما هي "المساعدة" التي يحتاجها نتنياهو ومعاونوه أكثر من تأكيد الهدوء، وإعادة تأكيدات التفاهمات، وتجديد تفاهمات جديدة، والبقاء على نفس درجة "السكينة" والارتخاء؟
هذا الذي يجري في إسرائيل، كأكبر أزمة زلزلت الواقع الإسرائيلي كان يمكن في ظروف فلسطينية أخرى أن يكون واحداً من أهمّ وأكبر وأخطر التحدّيات التي يمكن أن تتحوّل إلى فرصة تاريخية لا أعتقد أنها ستتكرّر أبداً.
وهنا لنا عودة لا بدّ منها: الأزمة الإسرائيلية بين التحدّي والفرصة الفلسطينية!
 

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.