عالم جديد يولد رسمياً في موسكو
ستُؤرَّخ زيارة الرئيس الصيني إلى موسكو قبل أيّام على أنها المناسبة الرسمية للإعلان عن انبثاق حقبةٍ وعهد تاريخي جديد.
وكانت العملية العسكرية الروسية التي طالت وتوسّعت، الآن، هي نقطة الانطلاق نحو هذا الانبثاق.
دعونا نرجع إلى التسلسل الذي قاد إلى ذلك كلّه باختصار وتكثيف، فقد عملت الولايات المتحدة ومن خلفها "الغرب" كلّه، وعلى مدار الساعة منذ انتصارها في "الحرب الباردة" على إعادة الهجوم الشامل لتكريس هذا الانتصار وتأبيده، وعملت كل ما كان بوسعها، وبما يتوفّر لديها من إمكانيات وأدوات.
شمل هذا الهجوم العدوان العسكري، وإسقاط الأنظمة المناهضة، الانقلابات والاغتيالات، الاحتلالات المباشرة، والأمثلة لا تُعدّ ولا تُحصى في مناطق عدة في العالم، وكان نصيب الإقليم العربي منها كبيراً وخاصاً ومميّزاً، أيضاً.
كما اشتمل هذا الهجوم على الأدوات الاقتصادية في أقسى أشكالها وحشية، وخصوصاً في تحويل التجارة الدولية إلى "رهينة" في يد منظمة التجارة الدولية، وإلى (نادٍ) لا يحظى بالعضوية فيه سوى من يوافق على شروط الولايات المتحدة ويخضع لمعاييرها هي بالذات، ولمعايير المصالح "الغربية"، وانتعشت النيوليبرالية المتوحّشة.
وعلى الجهة الثقافية، أعلن "فوكوياما" نهاية التاريخ، وتمّ "التبشير" بتاريخٍ "جديد"، في عالمٍ "متجانس"، ليس فيه سوى الرأسمال المسيطر، وصنّفت دول العالم وشعوبه على أساس درجة الالتحاق، ودرجة الخضوع، ودرجة الاندماج، والقبول والتكيُّف مع مقتضيات هذه السيطرة.
خرجت روسيا ضعيفة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والصين كانت تخطو خطواتها الأولى للخروج من آليات النموّ والتطوّر الاقتصادي والاجتماعي التي تميّز بلدان العالم الثالث.
لم يكن أمام روسيا من خيارٍ سوى استعادة بناء قوّتها العسكرية والاقتصادية، ولم يكن أمام الصين سوى مراكمة الخبرات والقدرات نحو التحوّل إلى قوة إقليمية في محيطها الآسيوي، تماماً كما كانت تفعل روسيا للبقاء في دائرة الدولة الإقليمية العظمى.
"الغرب" حدّد استراتيجيته بوضوح بعد أن استعادت الدولة الروسية عافيتها الاقتصادية والعسكرية، وبعد أن استطاعت الصين تحقيق معدّلات صاروخية من النموّ، وبدأت تجارتها الدولية تغزو أسواق العالم، وبعد أن بنت لنفسها قوة عسكرية أصبحت تُضاهي القوة العسكرية لكبريات البلدان "الغربية" إذا استثنينا التفوق النووي الروسي، والتفوق العسكري الكبير للولايات المتحدة.
أمام هذه الوقائع، وأمام هذه "الأخطار" حدّدت الولايات المتحدة معسكر الأعداء بالتالي:
• الصين هي الخطر الأكبر والدائم، لكن يستحيل البدء بها.
• روسيا الخطر الداهم، ولا بدّ من كسرها أوّلاً لكي يُصار إلى التفرّغ للصين، ومحاولة وقف تنامي دورها الاقتصادي، وإعاقة تمدّدها في آسيا أوّلاً.
لاحظوا هنا ماذا فعل "الغرب" لمواجهة "الأخطار"؟!
أعلنت الولايات المتحدة أن الإقليم الآسيوي هو الأولوية المطلقة لسياساتها الاستراتيجية، واستدارت بسرعة نحو آسيا، وبدأت تنسحب من الشرق الأوسط، وبدأت مسار التصدي للصين، وتحوّل المحيط الهادئ إلى مركز الثقل في إقامة الأحلاف والتحالفات هناك، وأعدّت كل الخطط لوقف التمدّد الاقتصادي للصين.
ومن هناك بدأت الاستفزازات للصين، ومن هناك تم "استدعاء" أستراليا على عجلٍ لتتسلّح بالغوّاصات النووية حتى ولو على حساب فرنسا نفسها، لأن أولويتها المطلقة بدأت من هناك.
على صعيد "الخطر" الروسي، بدأت أميركا مسار توسّع "حلف الناتو"، وأصبحت تقترب من الحدود الروسية، وبدأ مسار "انضمام" أوكرانيا إلى الحلف، وبدأت في العام 2008 من جورجيا، وقامت بالانقلاب على الحكومة الديمقراطية وأطاحت بها، وتحوّلت أوكرانيا إلى أداة مباشرة لتقويض الدولة الروسية، وتهديد أمنها القومي.
ردّت روسيا على الفور في جورجيا، وردّت على الانقلاب باستعادة شبه جزيرة القرم، ودعمت سكان الدونباس في حقهم بتقرير مصيرهم، وحذّرت "الغرب" من أخطار سياساته، ووقّعت "اتفاقية مينسك" أملاً بأن يتم تفادي الحرب، وتجنّب الصدام العسكري مع "الغرب".
تبيّن بالحقائق والوثائق أن "الغرب" قد وقّع على تلك الوثيقة ليأخذ الوقت الضروري الكافي لاستعدادات أوكرانيا واستكمال مهمة الهجوم على المنطقة الشرقية، وتبين الآن بصورةٍ قاطعة أن فرنسا وألمانيا قبلتا بالتوقيع على تلك الوثيقة لنفس الأهداف الأميركية، وفي مراهنة أن تتمكن أوكرانيا من جرّ روسيا إلى حرب استنزاف يمكن أن تؤدّي إلى انهيارات عسكرية، وإلى "انقلاب" سياسي داخلي، يعيد روسيا إلى دائرة الفوضى التي عاشتها بُعيد سقوط الاتحاد السوفياتي مباشرةً.
وهنا بادرت روسيا بالعملية العسكرية لوأد هذه المؤامرة وهذه المخطّات بتهديد أمنها القومي، واعتبرت عن حق أن الأمور قد وصلت إلى مستوى التهديد الوجودي.
"الغرب" الذي أجبر روسيا على هذه العملية، وكان يجهّز لها كل أنواع العقوبات، وحضّر لها كل المقدرات العسكرية في دعم أوكرانيا، وشنَّ حرباً اقتصادية ومالية ليس لها أي مثيل في تاريخ البشرية كلها راهن على استنزاف روسيا وتقويضها ولكنه أخفق بالكامل، وأصبح "الغرب" كله اليوم يدفع الثمن الباهظ لهذا الإخفاق هواة السياسة، وأبواق "الغرب"، وأتباع ثقافة الاستلاب والاغتراب صدّقوا أن روسيا دولة "إمبريالية"، وراهنوا على عزلها بل وتقويض نظامها اعتماداً على "غرب" متوحّش ولصوصي، و"أكدوا" أن الصين ليست بوارد دعم روسيا، ولا هي أصلاً مهتمة بكامل استراتيجيتها، بل هناك من "اعتقد" لأسبابٍ تنمّ عن "عبقرية" سياسية فذّة أن من مصلحة الصين تحجيم روسيا لكي تتمكن من "التربُّع" على عرش القطب المقابل والمنافس لـ"الغرب"!
الحقيقة أن الدعم العسكري الصيني لروسيا هي مقولة كذّبتها الولايات المتحدة، ولم يصدقها أحد، لأن أميركا نفسها لا تصدقها. وروسيا لا تحتاج إلى أي دعمٍ عسكري من أحدٍ في كل هذا العالم، والصين نفسها تعتمد على روسيا بالذات في الكثير من جوانب صناعاتها العسكرية، بما فيها العالية الدقة من الناحية التكنولوجية.
والصين لمن يعرف أبجدية السياسة قدمت لروسيا أكبر دعمٍ اقتصادي تقدمه دولة لدولة أخرى بفتح صناعاتها على النفط والغاز الروسي، وقامت بإبرام اتفاقيات بما يصل الآن بالأرقام المعلنة إلى أكثر من نصف تريليون دولار، وهي بالتعاون مع روسيا أدخلت الروبل واليوان إلى التجارة الدولية البينية، ووضعتا معاً الدولار الأميركي واليورو الأوروبي خارج إطار هذا التبادل.
أي أن الصين مع الهند ودول أخرى قامت "بتدمير" الجزء الجوهري والأهمّ من نظام العقوبات الاقتصادية على روسيا، وأبقت في جانب مهم من الواقع الاقتصادي الروبل الروسي في منطقة الأمان، ولم تتخذ أي موقف سياسي أو دبلوماسي من الأزمة الأوكرانية على حساب روسيا أو ضد جوهر مطالبها لمن يعرف في علوم وفنون القراءة بين السطور.
وأكبر دليل على ذلك أن "الغرب" نفسه يعتبر المبادرة الصينية للسلام في أوكرانيا بأنها "منحازة" لروسيا، وتحقق أهدافها!
الصين التي تتّصف سياساتها بالحكمة والتروي والهدوء والدبلوماسية الناعمة والتمهّل عرفت كيف تتصرّف، وعرفت متى تتصرّف، واختارت أسلوبها الخاص في هذا التصرّف.
وروسيا كانت تعرف كيف تدير حربها ضد نظام الدمية في كييف، ومتى ستشدّد الخناق عليه، ومتى ستسقط مراهنات "الغرب" على بقاء هذا النظام "وصموده".
قبل عدة شهور قلنا في مقالات سابقة إن روسيا لم تكن لتدخل هذه الحرب دون ترتيب أوراقها كاملةً، ودون معرفةٍ عميقة بمخططات "الغرب" وأهدافه، ومن ضمنها المخططات ضد الصين، واستهدافها ومحاولة الحدّ من تحوّلها إلى دولة تمتلك كل مقوّمات المحور والقطب المؤثّر في التوازنات الدولية.
وصلنا اليوم إلى ساعة الحقيقة.
روسيا والصين في تحالف دولي جديد، استراتيجي وعميق، ومرحلة جديدة على كل العالم أن يعيها ويتكيّف معها، وقوامها نهاية (نهاية) التاريخ، وبدء تاريخ جديد ما زال فيه الكثير من التوحّش واللصوصية والعنصرية والعدوانية "الغربية"، ولكن فيه أقل درجة من القدرة على الهيمنة، وعليه الكثير من القيود التي بات يفرضها التحالف الجديد.
ربح "الشرق" معركة كسر نظام الهيمنة المطلق، وأطاح بمؤامرة تقويض الدولة الروسية، وتراجعت قدرة "الغرب" على تهديد الأمن القومي لكل من روسيا والصين، وروسيا اليوم لديها نظامها ومحورها، والصين لديها نظامها ومحورها، وكل منهما تحوّل إلى دولة إقليمية عظمى في محيطه، وكلاهما معاً تحولّا إلى قطب كبير في كل المجالات، العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية.. وأخيراً وليس آخراً الثقافية.
من موسكو تم الإعلان عن نهاية الانتصار "الغربي" في "الحرب الباردة"، وتمّ تدشين المرحلة الجديدة بأشدّ الإرادة وأوضح الصور.
عندما يلتقي الرئيسان لمدّة زادت على أربع ساعات قبل انضمام الوفود إلى الاجتماع، فهذا يعني أن الأمور قد حُسمت بهذا الاتجاه، وأن كل التفاصيل قد وُضعت، وكل الآليات قد رُسمت، وكل السيناريوهات قد أُعدّت، بصرف النظر عن التصريحات الرسمية التي أعقبت "قمّة القرن الجديد".