هل انتهت أسطورة "الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"؟
كتب رئيس تحرير صدى نيوز: رغم إرهاب الدولة والفصل العنصري، وآلة القتل، وخرق القوانين الدولية، وعدم احترام قرارات مجلس الأمن، إلا أن إسرائيل تجدُ من يدافع عنها عالمياً كونها "الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، لكن المظاهرات التي أغرقت تل أبيب ومدناً في الداخل المحتل بدأت تدق إسفيناً في هذه العبارة، فهل أنهى نيتنياهو هذه الأسطورة؟ كاشفاً عن وجه إسرائيل الحقيقي المليء بالإرهاب والعنف والدم؟
"بيت العنكبوت"، هكذا كان يحلو للفلسطينيين وصف إسرائيل ومؤسساتها وشعبها، وهي فعلاً كذلك، فإسرائيل ليست دولة طبيعية، وليست دولة "أُمَّة" كما تروج، فهي ليست دولة يهودية، وفي نفس الوقت ليست دولة لشعب ذو تاريخ وروابط، بل هو تجمع لشتاتٍ من مختلف أنحاء الأرض، تماماً كمخيم لاجئين على شواطئ إيطاليا، يجمع فيه كل من ظن أن أوروبا أرض الأحلام، وهنا اجتمع كل من ظنوا أن فلسطين المحتلة هي أرض الشهد والعسل الخالية من البشر.
تركيبة الشعب الإسرائيلي مختلفة تماماً عن تركيبة الشعب الفلسطيني، فالإسرائيليون القادمون من شتى بلاد الأرض غالبيتهم يحملون جنسيات مزدوجة، أي أن انتهاءهم متعدد إلى بلدان مختلفة، وارتباطهم فهذه البلاد مصلحي، إن انتهت المصلحة انتهى الارتباط، وعادوا من حيث أتوا أو أتى آباؤهم، وهذا ما حصل ويحصل في كل أزمة تمر بها تل أبيب، من حروب واضطرابات سياسية، وهو ما حصل ويحصل في الأزمة الأخيرة التي يعيشها الشارع الإسرائيلي، وهي أزمة "إضعاف القضاء".
نقطة ضعف إسرائيل تكمن فيها، في المجتمع المفكك، دولتان وحتى 3 دول في دولة واحدة، دولة المستوطنين، ودولة المتدينين، ودولة العلمانيين، ثلاث دول كل واحدة منها لا تمت للأخرى بصلة، فالمستوطنون الذين يريدون إعادة أمجاد "دولة يهودا" والمتدينين الذين يرون في أنفسهم فوق بقية الإسرائيليين، فلا يخدمون في جيش ولا مجتمع، مستنزفين خزينة دولة الاحتلال، ويُسمح لهم بذلك ليس لسواد عيونهم أو زُرقتُها، بل لاستغلالهم من الطبقة الحاكمة سياسياً، أي طلب ودهم لإنجاح الطبقة الحاكمة في الانتخابات، فهم جيش من الأصوات التي تُعلي وتحطّ أيام الانتخابات.
ليس سراً أو اختراعاً لجديد، حين نقول إن المجتمع الإسرائيلي تجمعه العقدة الأمنية والخطر الخارجي، فكل هذه الاختلافات والتناقضات لا يُمكن ضبطها وتسييجها إلا بخطر أكبر منه، فإذا كان المجتمع الإسرائيلي خائفاً من نفسه ومن تفككه فإن العقلية السياسية الإسرائيلية نسجت وتنسج أخطاراً أكبر، كعقدة النووي الإيراني، الجبهة الشمالية، جبهة غزة، الضفة الغربية، كل هذه مخاطر تزرعها الماكينة الإعلامية الإسرائيلي في عقول اليهود "الشتات" حتى لا يفطنوا للخطر الحقيقي الساكن بينهم.
وليس سراً أيضاً أن نقول إن إسرائيل بنت مؤسسات ديمقراطية، ناقلة تجربة أوروبا والولايات المتحدة، لتوصف بالدولة الأوروبية في الشرق الأوسط، والدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، لكن ومنذ قدوم نيتنياهو بدأت هذه الخرافة تتلاشى، فأهم مقومات الديمقراطية هي القضاء المستقل، وهو ما يحاول نيتنياهو هدمه، عبر ما أسماه بالتعديلات القضائية، والتي يهدف من ورائها إلى إضعاف الجهاز القضائي، للهروب من الملاحقة القضائية وملفات الفساد التي تلاحقه وتلاحق وزراءه وأعضاء حزبه.
إذن، فالواقع الإسرائيلي يشهد أخطاراً مُركّبة الآن، سقوط أسطورة الدولة الديمقراطية، والتهديدات الخارجية، والتفكك الداخلي، هذا المزيج هو وصفة سحرية لانهيار إمبراطوريات وليس دولة فتية لا تاريخ لها ولا جذور.
في ظل هذا الواقع المعقد لن يتردد مئات آلاف الإسرائيليين من مغادرة "أرض الشهد والعسل" إلى بلادهم التي جاؤوا منها، فالمصلحة انتهت أو في طريقها للانتهاء، وهو ما يجري الآن، فشركات تكنولوجيا عديدة غادرت إسرائيل، ورجال أعمال كثر نقلوا رؤوس أموالهم منها، تمهيداً لانتقالٍ فيزيائي أو "هجرة عكسية".
الإسرائيلي الذي يرى أن الضريبة التي يدفعها تذهب إلى حفنةٍ متدينة تضع رجلاً على الأخرى وتتحكم في مصير كل الإسرائيليين في حكومة الاحتلال الحالية سينقلب على الحكومة ويطالب بإسقاطها، وإن لم يستطع فإن طريق المطار سهلة، ومنهم من سيرفض التجنيد كما يرفضها المتدينون الذين يعتبرون أنفسهم صفوة الصفوة.
اشتعال الشارع الإسرائيلي، وتظاهر عشرات الآلاف ضد حكومة نيتنياهو ليس صدفة أو حدثاً عابر، فهذا الشارع لم يختر نيتنياهو أصلاً، بل إن التحالفات مع اليمين والأحزاب المتطرفة هي من قادته إلى كرسي رئاسة الوزراء، أي أن العصبة الحاكمة في إسرائيل هي "كوكتيل متطرف" ومزيج من إرهابيين لن يتورعوا على هدم كل شيء وأي شيء لتحقيق أولاً أمنهم الشخصي السياسي والقانوني والجسدي، وثانياً تحقيق أفكارهم وجعلها حقيقة على الأرض، ما يعني التصادم من جزء واسع من الشارع الإسرائيلي، وتصادم مع المجتمع الدولي والولايات المتحدة، وحتى مع دول التطبيع التي عقدت معها اتفاقيات سلام "بوجه غير هذا الوجه" وحكومة غير هذه الحكومة.
إن الخسارة الكبرى لإسرائيل هي على صعيد الشعوب الأوروبية الذين يرون بأعينهم تحول صديقتهم الديمقراطية إلى دولة سلطوية قمعية، فصورة تل أبيب المتحضرة بدأت تهتز مع وقع قمع المتظاهرين ورشهم بالغاز والمياه العادمة، كذلك فإن الأنظمة الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية صرحت مرات عديدة وكشفت عن قلقها مما يريد فعله نيتنياهو في ملف القضاء.
شماعة الدولة الديمقراطية في الشرق الأوسط في طريقها للانكسار، ووجه إسرائيل الذي تحاول إخفاء حقيقته منذ أكثر من 70 عاماً انكشف أو يكاد ينكشف، فما بني على الدم سيظل وحشياً مهما ارتدى من أقمشة، ومهما غيّر في طريقة كلامه وأفعاله، فالطّبع سيغلب التطبع، والدولة القمعية ستظل قمعية إلى أن تنتنهي.