أُسبوعٌ حاسمٌ في دولة الاحتلال
حاسم لأن «المعارضة» باتت تُعَدّ بمئات الآلاف. وحاسم لأن هذه «المعارضة» تقترب من المليونيات! حاسم لأن «حزب الليكود» يجد صعوبة متزايدة في البقاء «متماسكاً» أكثر مما تماسك حتى الآن، والأزمة الإسرائيلية التي وصلت وشبعت وصولاً إلى مرحلة اللاعودة «أخذت» تنخر في عظم الائتلاف.
حاسم لأن الحديث عن «الشلل القومي» أصبح وتحوّل إلى يوميات من عمليات الاحتجاج، وأشكال العصيان المدني آخذة في «الاندماج» على جدول أعمال هذه الاحتجاجات.
حاسم لأن «التمرّد» داخل الجيش وصل إلى القمّة، ولم يعد في صفوف القواعد فقط.
وحاسم لأن المضيّ قدماً في «إصلاحات» بنيامين نتنياهو هو بمثابة تحوّل «المعارك» إلى أحد مسمّيات «كسر العظم».
«المعارضة» لن تتعايش أبداً مع دولة ديكتاتورية حسب الوصف الذي تطلقه على مرحلة ما بعد «إقرار» الإصلاحات، وغالبية أحزاب الائتلاف لا ترى في الدولة «الديمقراطية» سوى عقبة في طريق دولة الشريعة القادمة «لا محالة»، ولم تعد هذه الأحزاب ترى في الدولة «الديمقراطية» إلّا دولة الماضي، التي انتهت صلاحيتها، واستنفدت مهامها، وفقدت ضرورتها، وهي بنظرهم ليست سوى أحد أشكال الشرعية «المضادّة» لدولة الشريعة، «الشرعية» والوحيدة.
باختصار نحن أمام أيّام الحسم الكبير.
إذا تنازل «اليمين القومي الديني الفاشي» فليس أمامه سوى الاندحار، وإذا تنازلت «المعارضة» فالأمر لا يختلف.
كلما تأخّر «الحسم» وطالت الفترة الانتقالية نحو الوجهة القادمة، اشتدّ الصراع، وفقدت دولة الاحتلال مكامن قوتها، وتراجعت هيبتها، وكلما تحددت معالم وجهتها «الجديدة» ستشتدّ الحاجة إلى تأجيج الصراع أكثر فأكثر، وأعلى فأعلى، وأخطر فأخطر، لأن الصراع يتخذ في حينه طابعاً مصيرياً.. وباختصار، أيضاً، يكاد يتلاشى «الأمل» بالحلول الوسط.
هذا المشهد هو المشهد الحقيقي الماثل، وهذه هي الصورة الوحيدة التي تنقلها وسائل الإعلام «نقلاً» عن الواقع القائم.
هذه الصورة، وذاك المشهد الذي يعكس الأزمة المستفحلة في إسرائيل يشوبهما، بقدر ما يتعلق الأمر بمضمون هذه الأزمة، الكثير من التشوُّش، إضافةً إلى بعض التشوُّش في الشكل، أيضاً.
قلّما تتمكن وسائل الإعلام من قراءة شكل الأزمة الإسرائيلية، وغالباً ما «تفشل» هذه الوسائل في الإحاطة الرزينة بطبيعة هذه الأزمة، من حيث جذورها، وسياقاتها وعناصر التأثير المتبادل في مكوّناتها وتناقضات هذه العناصر في محتواها أو مضمونها.
لا غرابة في ذلك، لأنّ مهمّة القراءة «العلمية» لهذه الأزمة ليست مهمّة وسائل الإعلام، وإنّما مهمّة مراكز البحث والتفكير، وليس مراكز البحث والتفكير فقط، وإنّما تلك التي تتحرّى بقدر ما هو ممكن، وبقدر ما ينطوي عليه هذا الأمر من طابعٍ نسبي مؤكّد، وذلك لأن مراكز البحث والتفكير الحزبية والمنحازة بصورة مسبقة لهذا الطرف أو ذاك من طرفَيّ، أو أطراف هذه الأزمة، غالباً ما تضع «الهدف» الذي تبتغي الوصول إليه بصورة «قبلية»، وهي من أجل الوصول إليه تحاول البحث عن المعطيات والوقائع، وأنصاف الحقائق، أو أرباعها، وتوظفها للوصول إلى الهدف المسبق وشتّان ما بين هذه وتلك.
إذا بدأنا بـ»اليمين»، وبجناحه الفاشي على وجه الخصوص، فإنّ هذا «اليمين» قد قرأ المرحلة بأنها مرحلة حسم الصراع من كل جوانبه.
وحسم الصراع من وجهة نظر هذا «اليمين» يتطلّب حسم الصراع الداخلي، على ماهية النظام وعلى طبيعة الدولة.
أي أن «اليمين» يربط بصورة عضوية بين حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني، بل ومع الشعوب العربية المحيطة لفلسطين، أوّلاً بإقامة إسرائيل «الصغرى» على كامل الأرض الفلسطينية بحدودها الانتدابية أوّلاً، لكي يُصار فيما بعد إلى حسم هذا الصراع في المحيط الأكبر بعد ذلك، وبين طبيعة الدولة، ونمط النظام السياسي الذي يجب أن «يضمن» هذا الحسم.
«اليمين» في هذه القراءة قرأ المعادلة الداخلية «جيداً» من وجهة نظره.
فقد تلاشى «اليسار» التقليدي، («حزب العمل» كمؤسّس للدولة الباقية)، وخرجت قوى «اليسار» من على يساره من «السياق»، وتحظى الأيديولوجية التي تريد حسم الصراع من حيث جوهره بشبكة أوسع بكثير من الائتلاف الذي يسيطر على الحكومة، من أمثال أفيغدور ليبرمان، وموشي يعالون، كما يتساوق مع كل هذه المكوّنات «اليمينية» «يمين الوسط» وكذلك «الوسط» نفسه.
كما قرأ «اليمين» خارطة الصراع الإقليمية وعجزها عن مواجهته، وخارطة الصراع الدولية، وتردّد القوى الدولية ونفاقها وفشلها المتواصل والمتراكم في التصدي له أو ردعه، أو حتى التهديد بذلك.
يُضاف إلى ذلك كلّه قراءة هذا «اليمين» للواقع البائس للحالة الوطنية الفلسطينية الرسمية والحزبية، وإلى حدّ ما الحالة الشعبية من زاوية قطع الطريق سريعاً قبل استعادة عافيتها أو تنظيم نفسها وتحولها إلى فعلٍ وطني شامل وعارم ومتماسك.
هنا وقع «اليمين» في أكبر تقديراته المشوّشة لجهة أنّ من يتفق مع هذا «اليمين» في حسم «الصراع»، أو يسكت عن مسار هذا الحسم لن يوافق، ولن يتساوق مع هذا «اليمين» في حسم الصراع الداخلي نحو نظام سياسي ديكتاتوري، وفي دولة الشريعة اليهودية، أو دولة شريعة بمسحات ديمقراطية مقيّدة ومحدّدة، وعلى أضيق نطاقٍ ممكن.
أما «المعارضة» والتي تتصدّر حتى الآن المشهد الاحتجاجي الكبير في دولة الاحتلال فلم «تفهم» حتى الآن أن مصدر كل شرور «اليمين»، وما يسعى إليه من انقلاب لتغيير نمط النظام السياسي وطبيعة الدولة، هو «الفكر» الصهيوني، والمشروع الصهيوني، وأطماعه النابعة من منطلقاته الأساسية، وأن الصراع مع الشعب الفلسطيني، واستعجال حسم هذا الصراع في ضوء نتائج «التفويض» الذي حصل عليه «اليمين»، وفي ضوء النزعة المتزايدة في المجتمع الإسرائيلي نحو المزيد من التطرّف والتشدّد ونحو العنصرية، هو الذي أدّى حتى الآن، ويؤدّي، وسيؤدّي إلى الانقلاب على «الديمقراطية».
أي أن «اليمين» توهّم أن كل الظروف باتت مهيّأة «لحسم الصراع»، وتوهمت «المعارضة» الاحتجاجية أن بالإمكان «استعادة» الدولة الإسرائيلية «الديمقراطية» دون أن تعيد هذه «المعارضة»، ودون أن تتوقف أمام سؤال العلاقة بين أيديولوجيا العنصرية والاحتلال والإقصاء والنهب والاستيلاء من جهة، وبين الانقلاب الذي يجري في دولة الاحتلال.
ولذلك فالأزمة هي أزمة المشروع وليست أزمة النظام السياسي من زاوية «النمط»، وليست أزمة الدولة من زاوية (الطبيعة) سوى انعكاس لجوهر أزمة المشروع الصهيوني عند درجةٍ معينة من [تطوّره] أو عند درجة أخرى من الاستعصاء الذي وصل إليه.
من المؤكّد أن وجود شخصية مثل نتنياهو، اعتبر نفسه الملك المُتوّج في دولة الاحتلال، ووضعه «القانوني» المهدّد بالإقصاء والمحاكمة، والحالة القانونية لأرييه درعي، أيضاً، قد لعبت دوراً كبيراً في التسريع بما يسمّى الإصلاحات القضائية، كما أن من المؤكد، أيضاً، «مخاوف» القوى «اليمينية» الصاعدة من «ضياع» الفرصة «التاريخية» قد ساهم بصورةٍ مباشرة في «حرق طبخة» حسم الصراع، إلّا أن جوهر الأزمة التي تعيشها دولة الاحتلال لم يكن ممكناً تفاديها أو تجنُّبها، أو تجاوزها بأيّ حال، وكانت هذه الأزمة، وربّما بصورةٍ أعمق ستقع، إن لم يكن اليوم فغداً على كلّ الأحوال وفي مُطلقها.
أزمة إسرائيل الحقيقية هي الشعب الفلسطيني بما لديه من إرادة وتصميم، ومن استعداد عَزَّ مثيله للدفاع عن حقوقه الوطنية، بقاءً وصموداً وكفاحيةً، حتى الانتصار الكبير على المشروع الصهيوني كلّه، فكراً وسياسيةً، وعنصريةً وعدوانيةً وتوسعية.
كل من سيحاول أن يساهم في «حلّ» الأزمة المستفحلة في إسرائيل بمعزلٍ عن «جوهر» الصراع، وليس عن حسمه، سيجد نفسه وقد خسر في صبيحة كل يوم مساحة جديدة من الأرضية التي يقف عليها، وبقدر ما تقترب الحركة الاحتجاجية من إدراك هذه الحقيقة، فإنها تؤسّس لحسم الصراع أوّلاً وعاشراً حول هذا الجوهر، وليس حول أيّ صراعٍ آخر.
فلسـطين هي أزمة إسرائيل.
وفلسـطين هي الحلّ الوحيد الممكن لأزمة إسرائيل الحقيقيّة.