قراءة في وثيقة "عقيدة السياسة الخارجية الروسية" 2023
أثار الإعلان قبل أيام عن وثيقةٍ جديدةٍ تحدد ملامح «عقيدة السياسة الخارجية» لروسيا اهتمام أوساطٍ سياسيةٍ وإعلاميةٍ عديدةٍ عبر العالم، خصوصاً وأنها تأتي في خضم الحرب الجارية في أوكرانيا، من جهة، وتُعرب عن توجهاتٍ تحدد مسار سياسة روسيا الخارجية في المستقبل المنظور، من جهةٍ أخرى. انصبّ تركيز الاهتمام على ما تضمنته الوثيقة من نظرةٍ تشاؤميةٍ حول اضطراب الأوضاع الدولية وتفاقم الصراعات في العالم، واعتقاد روسيا الراسخ بكونها مستهدفة من قبل تحالفٍ غربيٍ تقوده أميركا، يسعى ليس فقط لتقويض مكانتها على الصعيد الدولي كقوةٍ كبرى لها الحق في السعي لتحقيق مصالحها كمركزٍ عالميٍ مستقل، وإنما لتهديد وجودها الكياني كدولةٍ كبرى، أيضاً. وما زاد من الاهتمام، وقد يكون من قلق الكثير من تلك الأوساط، ما أعلنت عنه تلك الوثيقة من سعيٍ روسيٍّ لتعزيز العلاقات الإستراتيجية مع الصين والهند، بهدف تشكيل محور أوراسي / آسيوي – باسيفيكي لمواجهة أميركا وتحالفها المعادي، وإعادة التوازن للنظام الدولي المضطرب حالياً بفعل «التنمر» الأميركي الناجم عن أحادية القطبية الدولية.
يتضح من مراجعة بنود الوثيقة الجديدة أن ما تضمنته من رؤيةٍ وتوجهاتٍ ليس جديداً، بل يأتي في مرتكزه الأساسي امتداداً لما احتوت عليه الوثيقة الروسية الصادرة عام 2016 بهذا الشأن، والتي جاءت في أعقاب إعلان أوباما القاضي بتحوّل تركيز اهتمام أميركا من منطقة الشرق الأوسط إلى الباسيفيك، بهدف الحدّ من الصعود الصيني. استشعرت موسكو منذئذٍ بسعي أميركا للاستئثار بديمومة هيمنة تفردها المطلق على النظام الدولي، ورفضها قبول مبدأ تشاركيتها مع دولٍ كبرى أخرى في تحديد أسسه وتسيير شؤونه. لم تكن روسيا لتقبل استمرار إقصائها عن الساحة الدولية، لاحقاً لتراجع قدرتها ومكانتها في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، وقد تعافت جزئياً من ذلك التراجع بعد وصول بوتين سدة الحكم مع بداية الألفية الثالثة. لقد أرادت استعادة موقعها، وحماية مصالحها، وهي الوريث لقوةٍ عظمى، وصاحبة إرثٍ حضاريٍّ، وإحدى القوتيْن النوويتيْن المركزيتيْن في العالم، ما يؤهلها ويمنحها الحق والشرعية في مطالبتها بأن يتحوّل النظام الدولي إلى التعددية القطبية، لتصبح واحدةً من أقطابه الرئيسين.
منذ العام 2016 وروسيا تعلن رسمياً هذه المطالبة، وتسعى كي تحققها. لذلك لم تأت وثيقة السياسة الخارجية الجديدة بجديدٍ يُذكر بهذا الخصوص. بل إنها تعود لتستلهم نفس الأفكار والمواقف المُعرب عنها في الوثيقة الأم الصادرة عام 2016. أما الجديد في وثيقة 2023 المتأثرة بمعطيات الحرب الدائرة في أوكرانيا، والتي تعتبرها روسيا حرباً دفاعيةً أُجبرت على خوضها للدفاع عن وجودها وحماية مصالحها واستقلالية نهجها وقرارها، فهو في زيادة درجة الوضوح في توجيه إصبع الاتهام، وإلقاء اللوم وتبعية المسؤولية عن تلك الحرب، وعن تدهور الثقة في العلاقات الدولية، على أميركا وحليفاتها الغربية الرئيسة في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
لا تُخف روسيا مطالبتها وسعيها لتحويل النظام الدولي إلى التعددية القطبية، بل تُصر على ذلك في الوثيقتيْن. وهي تنحو باللائمة على القوى الغربية، وبالتحديد على أميركا، لكونها تحاول إعاقة مجرى التاريخ وكبح مساره، ولا تعترف بأن عصر الكولونيالية قد ولّى وانتهى، وبوجود دولٍ غير غربية تُنافسها، ومن حقها أن تُنافسها، على الصعيد العالمي. لذلك، ومن أجل إقامة نظامٍ دوليٍ جديدٍ متعدد الأقطاب يكون عادلاً ومستداماً، يُحقق السلم والأمن والاستقرار للعالم بأسره دون تجزئةٍ، ويتيح للدول على اختلاف مناهجها ومقاصدها فرصةً متساويةً للتطور، فإن روسيا ستنتهج سياسةً خارجيةً يكون في مركز أهدافها تقويض الهيمنة الأميركية-الغربية، واستعادة احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتقدير تعدد الثقافات ونماذج تراكيب المجتمعات، وترسيخ مبدأ التعاون بين الدول على أساس احترام توازن المصالح وتحقُق المكاسب للجميع دون استئثارٍ من البعض واستثناء الآخرين. كل ذلك يكون في بوتقةٍ مرتكزها الأساسي هو التقيد بأحكام القانون الدولي الساري على الجميع في جميع الظروف والأحوال، وبما يمنع ازدواجية المعايير.
من أجل تحقيق هذه الرؤية، نجد أن وثيقتيْ عاميْ 2016 و2023 تحددان تركيز الفعل الروسي في حلقاتٍ متتالية، يقع مركزها في موسكو وتتسع تباعاً لتشمل العالم بأسره. أولى الحلقات تبدأ بالتركيز على دول الجوار في منظمة الدول المستقلة التي ترعاها روسيا، وتخص بالذكر بيلاروسيا، وتدعو إلى توثيق روابط التعاون بينها. أما الثانية فتُركّز أنظار روسيا المحاصرة من دول حلف الناتو من الغرب على النظر إلى الشرق، سعياً لإيجاد تحالفٍ مضادٍ يسندها، يمتد من أوراسيا عبر الهند والصين، وصولاً إلى الباسيفيك. فروسيا، كما يُستشف من الوثيقتين، غير قادرةٍ لوحدها على مواجهة التحالف الأميركي-الغربي، وهي بحاجة إلى تكاتف دول أخرى معها في هذا المسعى، وتجد في الصين والهند، القوتين الصاعدتين في هذا القرن، إمكانيةً واعدةً. ومع أن تعويلها على احتمال معاداة الهند لأميركا أمرٌ مشكوكٌ فيه، نظراً للتقارب الواضح بين الطرفين، فإن تحالف روسيا إستراتيجياً مع الصين المستهدفة أميركياً يبقى السبيل المتاح الأكثر احتماليةً وفاعلية. وتشير الدلائل العملية بقوة على نجاح المسعى الروسي في هذا الاتجاه، خاصةً وأن الصين تشارك روسيا، وإن كان بصورةٍ مبطنةٍ، في المصالح والأهداف العامة المتعلقة بإعادة هيكلة مبنى النظام الدولي.
أما الحلقة الثالثة في السياسة الخارجية الروسية فتركز على تطوير التعاون مع الدول الإسلامية في إطارَيْ منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية، مع إيلاء اهتمامٍ خاص بمنطقة الشرق الأوسط، وبالتحديد خمس دولٍ، هي: إيران وسورية وتركيا والسعودية ومصر. في هذه الحلقة، تطرح روسيا نفسها كمحفزٍ ووسيطٍ لإيجاد مقارباتٍ تعيد اللُحمة للإقليم كي يستعيد عافيته، وذلك بالعمل على تعزيز العلاقات بين إيران والدول العربية، وبين سورية وجيرانها، وبين الدول العربية وإسرائيل، ولكن بضمان إيجاد حلٍّ للقضية الفلسطينية. هذه الحلقة مهمة لروسيا كون الشرق الأوسط هو الجار الجنوبي لروسيا، والسبيل لوصولها للمياه الدافئة؛ معبرها الأقرب والأسهل للانخراط في العالم.
تبقى أفريقيا ودول الكاريبي وأميركا اللاتينية منطقتيْ حلقتيْ الاستهداف الروسي الرابعة والخامسة اللتيْن تسعى روسيا لزيادة أواصر التعاون معها، مع التركيز على البرازيل وكوبا ونيكاراغوا وفنزويلا، للطابع اليساري لأنظمة الحكم في هذه الدول. وبهذه الحلقات الخمس تكون روسيا قد حددت مجالات انخراطها الفاعل على مستوى العالم، والذي تستهدف منه محاصرة الدول الأوروبية التي تزداد عدائيتها لها، بتحريضٍ وإسنادٍ من أميركا، كما تدّعي أن الأحداث في أوكرانيا بيّنت ذلك لها.
هذا هو التوجّه الروسي المتضمَّن في وثيقة «عقيدة السياسة الخارجية» الصادرة حديثاً، وهي لا تخرج عن محددات هذه السياسة كما أُعلن عنها عام 2016. ما يثير الاهتمام أن سبعة أعوامٍ مرّت منذ الإعلان عن هذه المحددات، والسعي لتحقيقها، لكن دون أن يناصب موسكو سوى قدر محدود من النجاح. في هذا السياق يجدر الانتباه إلى أن الأهمية لا تكمن في قدرة طرفٍ ما على توضيح أهدافه وتضمينها في وثيقة إطار، وإنما يكمن في امتلاك المصادر الكافية واللازمة لتحويل الرؤية إلى واقع.
لا شكّ في أن روسيا تمتلك الحافز، كما وتمتلك الرؤية، ولكن معضلتها المزمنة كانت ولا تزال تكمُن في محدودية ما يتوفر لها من مصادر لتُعينها على تحويل رؤيتها إلى واقع ملموس. منذ قرون، وبالتحديد منذ ما بعد اتفاق وستفاليا عام 1648 وحتى الآن، وروسيا دولةٌ كبرى على الصعيدين الأوروبي والعالمي. ولكن مع أنها أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، وتحتوي على مخزونٍ هائلٍ من المصادر الطبيعية اللازمة لتحقيق النهضة والتقدم الاقتصادي اللازم لدفع رؤيتها وتحقيق مصالحها عبر العالم، إلا أنها عانت طوال القرون الماضية من ضعفٍ مزمنٍ في اقتصادها بقي ملازماً لها حتى الآن (هي ليست من أول 10 اقتصادات في العالم، وتتفوق عليها دولة مثل كوريا الجنوبية). وللتعويض عن ذلك، ركّزت روسيا جهدها على تطوير قدراتها العسكرية، وضخّت في ذلك موارد ضخمة ساهمت بإبقاء قدراتها الاقتصادية محدودةً ومتواضعةً مقارنةً مع منافساتها من الدول الكبرى. كان ذلك واضحاً خلال حقبة ثنائية القطبية الدولية، التي شهدت سباقاً محموماً على التسلح جعل من الاتحاد السوفياتي مارداً عسكرياً، ولكنه أبقاه قزماً اقتصادياً مقابل أميركا، ما أدى إلى تعثره وانهياره التام عام 1991.
لا تملك روسيا من القدرة الاقتصادية الضرورية والقادرة على تحقيق رؤيتها في اختراق العالم واستجلاب الدول إلى جانبها سوى ما تمتلك من نفطٍ وغاز، وقدراتٍ عسكريةٍ تستخدمها في صفقات تسليحٍ لدولٍ ساعيةٍ للتسلح. لا توجد لديها منتوجاتٌ صناعيةٌ تنافس فيها في السوق العالمي، ولا فائضٌ ماليٌ لتنتهج سياسة مساعداتٍ مؤثرة، ولا هيمنةٌ على مؤسساتٍ تتحكم بالاقتصاد العالمي لتستخدمها في تطويع غيرها من الدول. ولكن رغم ذلك هي أكبر قوةٍ نوويةٍ في العالم، وهذا ما يحفظ لها مكانتها بين الدول الكبرى. ومع أن لديها الطموح لتكون إحدى الدول الأساسية في نظامٍ دوليٍّ متعدد الأطراف، وقد تبقى قدرتها العسكرية ضامناً لذلك، إلا أنها وجدت أنها بحاجةٍ ماسةٍ للاتكاء على الصين، المارد الاقتصادي المقابل لأميركا، من أجل تحقيق هدفها بتحويل النظام الدولي أحادي القطبية إلى متعدد الأقطاب.
الاستنتاج باختصار، أن الأفعال هي المهمة وليست الأقوال، وأن الانتباه يجب أن يبقى متركزاً على الصين، إذ إنها هي المنافس الحقيقي والفعّال لأميركا، وهي في نهاية المطاف مَن سيطيح بأحادية القطبية الدولية. عندئذٍ ستجد روسيا لنفسها مقعداً على الطاولة.