عن قانونين حاكمين، وماذا لو؟
نرى في الصدام بين كتلتين اجتماعيتين، وبالطريقة التي تجلى بها على مدار ثلاثة أشهر، علامة فارقة في تاريخ الدولة الإسرائيلية، تصلح لتأويلات مختلفة أختارُ منها: "الصراع على هوية إسرائيل" كعنوان عام وعريض تتفرع عنه تأويلات كثيرة، كما أن "الصراع على هوية فلسطين" هو العنوان العريض لما يسمى بالانقسام، وتتفرع عنه تأويلات كثيرة.
معنى أن تكون إسرائيل دولة يهودية، هو ما نعثر عليه في متن السجال الدائر. وهي قضية خلافية بين كتلتين تعلم كلتاهما الأهداف الحقيقية لغريمتها. ولنقل بداية إن في مجرّد الكلام عن معنى يهودية الدولة، ومركزيته، ما يُذكّر بالردود التي صاغها فلسطينيون لتبرير رفض الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وقد غابت، للأسف، عن كل تلك الردود حقيقة أن يهودية الدولة لا تحظى بتعريف جامع ومانع لدى اليهود الإسرائيليين، واليهود عموماً، وإذا كان ثمة ما يستدعي التدليل على أمر كهذا فالصدام الذي نتكلّم عنه، ونراه على مدار ثلاثة أشهر، هو الدليل.
معنى الدليل أن شرائح اجتماعية واسعة لا تقبل بالشريعة اليهودية كمرجعية للدولة، وفي المقابل ثمة شرائح اجتماعية تريد فرض الشريعة كمرجعية للدولة. هذا هو المعنى العميق للصراع. ستجد بين رافضي الشريعة تأويلات لا تعد ولا تحصى، ولا تخلو من الغموض والعبثية، وستجد بين مؤيديها تأويلات لا تعد ولا تحصى، ولا تخلو من غموض وعبثية. وكالعادة يغلّف هؤلاء وأولئك مرافعاتهم بذرائع سياسية ومبررات استراتيجية، ويرفعون شعارات تضمن التعبئة والتجنيد، أي حشد الأنصار في الشارع، وحصد أصواتهم في صناديق الاقتراع.
وعلى الرغم من حقيقة أن كتلة اليمين القومي ـ الديني (مع ملاحظة أن غريمتها لا تخلو من عناصر قومية ودينية، أيضاً) تضع قناع الاستيطان، و"أرض إسرائيل"، وحسم الصراع في فلسطين وعليها، كأقنعة رئيسة لمحاولة الاستيلاء على الدولة والمجتمع، إلا أن الصراع مع الفلسطينيين لا يحتل مكانة مركزية في جوهر الصدام بين الكتلتين.
وقد تكفي عودة سريعة إلى سجالات وقضايا الانتخابات البرلمانية على مدار عشر سنوات مضت، مثلاً، إضافة إلى السجال على هامش الصدام في الوقت الحاضر، لإدراك أن الصراع مع الفلسطينيين لا يمثل قلقاً وجودياً لأحد من الواقفين على خطوط التماس السياسية والأيديولوجية بين الكتلتين. ومن اللافت أن الصراع مع الفلسطينيين بات مصدر قلق وصداع دائم لقوى إقليمية ودولية أكثر من كونه مصدر قلق وصداع للإسرائيليين أنفسهم، ولعل الوساطات والتدخلات التي سبقت "رمضان" خير شاهد ودليل.
في واقع كهذا ما يحرّض على طرح أسئلة، لا غنى عنها، بشأن أسباب التهميش. ما الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه، وعليه؟ وكذلك أسئلة، لا غنى عنها، بشأن أهمية وضرورة أن نفرض أنفسنا على كل صراع محتمل في، وعلى، الدولة والمجتمع الإسرائيليين لما لأمر كهذا من تداعيات مصيرية على حاضرنا ومستقبلنا في هذه البلاد.
بيد أن طرح أسئلة لا غنى عنها، وكالعادة، لا يتأتى دون مقدمات وفرضيات نظرية. وقد كان لدينا في يوم ما مرجعيات كهذه، ولكن صعود الإسلام السياسي، والسكتة الدماغية التي أصابت ما كان يساراً في وقت مضى، والهوية المحافظة للسلطة الفلسطينية، بددت هذا كله.
المقصود أن في تاريخ وتجارب وحروب الحركات الاستقلالية، في المستعمرات على امتداد قرن مضى، ما كان، وما زال، مرجعية لكل تفكير محتمل بشأن الصراع في فلسطين وعليها، إلا إذا فصلنا الصراع عن مرجعياته في ميراث حركات التحرر القومي، وسمحنا للإسلام السياسي بالاستيلاء عليه، وإعادة تعريفه استناداً إلى مرجعيات وفرضيات لاهوتية.
نعثر في ميراث حركات التحرر القومي على قانونين حاكمين:
أولاً، لا تحقق الحركة الاستقلالية أهدافها لأنها تملك قوّة نيران أقوى من عدوّها، بل لأن عدوها لم يعد قادراً على تسديد الفواتير السياسية والأخلاقية للصراع، ولأن التكلفة المادية للصراع صارت أعلى من عوائده المادية.
وثانياً، لا تحقق الحركة الاستقلالية أهدافها إلا إذا وجدت في مجتمع عدوّها من يعترف بها، ويجد قاسماً مشتركاً بينه وبينها لتحقيق أهداف تخصّه أيضاً (كما كان الشأن في دفاع المثقفين الفرنسيين (والصحيح في العالم) عن الثورة الجزائرية، والعلاقة العضوية بين حركة الحقوق المدنية ومناهضة الأميركيين للحرب العدوانية في فيتنام). وهذا أمر فائق الأهمية لأسباب وثيقة الصلة بخصوصيات الصراع في فلسطين وعليها: لا إمكانية لحل الصراع في بلادنا دون شراكة من نوع ما مع كتلة إسرائيلية فاعلة.
كيف يُترجم هذا كله على الأرض؟ ولماذا لم يُترجم، أو يحتل المتن، عشيّة وفي بداية الانتفاضة الثانية، مثلاً، والتي إذا شئنا تحويلها إلى وسيلة إيضاح، وقعت فيها كل الأخطاء المُكلفة والمحتملة، وسارت عكس القانونين الحاكمين، في كل شيء تقريباً، إلى حد أفقدها الكثير من أوراق القوّة السياسية والأخلاقية، وجعل منها قضية إنسانية، لا سياسية، في حالات كثيرة، أبرزها غزة. وهذا ما يسدد الفلسطينيون فواتيره حتى الآن.
ماذا لو وضع الليبراليون الإسرائيليون الاحتلال، والديمقراطية الإثنية نفسها، في قفص الاتهام في صراعهم مع اليمين القومي ـ الديني على هوية الدولة والمجتمع الإسرائيليين؟ لن يفعلوا هذا على الأرجح: لأن ديمومة الاحتلال لا تؤذيهم في جيوبهم، أو تعكّر صورتهم في المرآة، أولاً، وهم من يضفي عليه مسوّغات تضليلية ومضللة ثانياً، ناهيك عن صعوبة التعاطف مع آخر تتفشى لديه ميول قومية ودينية متشددة ثالثاً.
وأسوأ ما في الأمر أن في أفعالنا ما يصب الماء في طاحونة هؤلاء. فاصل ونواصل