جمعيات تستقطب الكفاءات، وجمعيات تُهجّرهم!
أرصدُ منذ مدة طويلة طريقة تسيير جمعيات إسرائيل (الخيرية)، وأساليب عملها، لهدف الاستفادة ورصد آليات عملها، لأن أنشطتها لا تحظى بالنشر الواسع!
اخترتُ أن ألتقط في هذا المقال نموذجا من نماذج الجمعيات الإسرائيلية ذات الرسالة المحددة، وهي جمعية أسسها أحد الحاخامين العام 2002 بعد أن قُتل أحد أفراد أسرته في عملية فدائية، قرَّر أن يؤسس جمعية (نفس بنفس) لاستبدال المقتولين بالمهجرين لإسرائيل الذين يجلبهم!
بلغ عدد الذين هجَّرتهم الجمعيةُ إلى إسرائيل حتى بداية العام 2023 خمسةً وسبعين ألف مهجَّر، ومن أبرز أهداف هذه الجمعية من صفحتها الإلكترونية؛ «تهويد النقب، بجلب ربع مليون ليسكنوه»! رئيسها، يهوشوع فاس ولد العام 1973 في نيوجيرسي، هو، اليوم، يُدرِّس في المعهد الديني، «ليف توراه» في «بيت شيمش»، هو مايسترو تهجير يهود العالم، حصل على جائزة إسرائيل!
لم يقتصر اهتمام الجمعية بتهجير اليهود فقط، بل إن هذه الجمعية تنتقي المهجرين وفق احتياجات إسرائيل!
نظَّمتْ الجمعيةُ مؤتمرا بعنوان ميدكس Medex في مدينة نيوجيرسي في الأول من نيسان الحالي، هدف المؤتمر جلب الأطباء والفنيين الطبيين من كل أنحاء العالم بتهجيرهم إلى أرضنا، لتسديد النقص في الكادر الطبي الإسرائيلي بعد أن أشعلتْ إسرائيل الضوء الأحمر منذ سنتين بسبب نقص الأطباء والفنيين، هذا النقص ولَّد تذمرا عند الكفاءات الطبية الإسرائيلية، ما دفع أطباء إسرائيليين كثيرين للهجرة من إسرائيل إلى الخارج!
هذا هو العمل الحقيقي للجمعيات غير الحكومية، وهو التنبيه على المخاطر، والعمل على إنجاز السبل الكفيلة بتسديد النقص! كانت الجمعية هي المدير الرئيس للمؤتمر، أما العازفون الثانويون فكانوا يتكونون من وزارة الهجرة والاستيعاب، ووزارة الصحة الإسرائيلية! حضر المؤتمر ثلاثمائة وخمسون طبيبا وفنيا من أميركا الشمالية، وفي المؤتمر نفسه جرى توقيع عقود العمل المغرية والمرتبات العالية، بخاصة لمن يعملون في النقب! أحضرت الجمعية ثمانمائة طبيب مختص وآلاف الفنيين وأربعمائة ممرضة خلال عشرين عاما!
إذاً، فإن هذه الجمعية وغيرها في إسرائيل تُسدد النقص في عمل الحكومة، وهو الجوهر من تأسيس الجمعيات الخيرية!
مع تقديري للجمعيات الفلسطينية التي تتولى تسديد النقص ونشر الثقافة والوعي وهي قليلة، إلا أن وطننا لا يزال يعاني من جمعيات ذات مسميات عديدة غايتها الرصد والمتابعة وإصدار التقارير لمصلحة مموليها في الخارج، يرصد مسؤولوها كل حركات المجتمع يعلبونه في صورة تقارير تُستخدم مادةً خاما، ثم تُرسل هذه المادةُ الخام إلى ممولي الجمعية، وهناك يجري تحليلها بدقة وكشف نقاط الضعف والقوة، ومِن ثَمَّ إنتاج الأسلحة القادرة على تسيير قطيع الشعوب وإدارة حياتهم عن بُعد، بلا جيوش أو احتلال! حتى أن دولا كثيرة نجحت في إبراز قيادات سياسية من مسيري هذه الجمعيات، مكَّنتهم من الحكم والسيطرة، هذه القيادات هي اليوم تحكم عددا كبيرا من البلدان، مع بقاء ولاء هذه القيادات لداعميهم في الخارج، أكثر من ولائهم لأوطانهم، على الأقل في السر!
للأسف هناك جمعيات أخرى عديدة تُسلكُ في قائمة الارتزاق، حين يسعى مؤسسوها لإثراء جيوبهم وجيوب عائلاتهم، يدخل في هذا الإطار الجمعيات التي أسستها الأحزاب لغرض الإنفاق على العاطلين في الحزب، وعلى تغطية نفقات الكماليات التي ينعمون بها!
ولعل أخطر ما في ملف هذا النوع من الجمعيات؛ تلك الجمعيات التي تتولى تنفيذ أبشع الأدوار وأخطرها، عندما تجتذب الكفاءات الشبابية الوطنية، وتصطفي البارزين وتغريهم بالهجرة من الوطن، لهدف إفراغ الوطن من الأذكياء والمثقّفين والإعلاميين الأكْفاء ليعيش الوطنُ تابعا، يُدمنُ العيش على المنح والهبات!