كل الطرق ستؤدي إلى روما..!
نشرت مجلة شؤون دولية الأميركية، في نيسان الجاري، مقالة لأستاذ العلوم السياسية الأميركي مارك لينش بعنوان «نهاية الشرق الأوسط». ينطوي العنوان على قدر كبير من الدراما، ويضرب على أكثر من عصب نافر، وفي كلتا الحالتين ما يجعله مرشحاً طبيعياً لسوء الفهم. المقصود، حسب لينش، أن الشرق الأوسط، بحدوده الجغرافية المتداولة في خطابات السياسة، وسياسة الولايات المتحدة، صناعة حديثة العهد نسبياً، وليس حقيقة جغرافية وسياسية أو ثقافية وتاريخية ثابتة.
وهذا صحيح، ومن حسن الحظ أنه يستشهد بإدوارد سعيد للتدليل على فرضية كهذه. والهدف من المقالة هو تذكير صنّاع السياسة الأميركية بإعادة النظر في مفاهيم صارت تتاخم حد البداهة، ولكن الزمن تجاوزها.
وفي هذا الصدد يعيد رسم خارطة جديدة للشرق الأوسط تضم أفغانستان وباكستان والسودان، ودولاً سابقة في الاتحاد السوفياتي، ويُلقي نظرة جديدة على علاقة دول مركزية وأُخرى على الأطراف في «العالم العربي» بمحيطها، وما يكتنف علاقات كهذه من سوء فهم، وما طرأ عليها من تغيّرات جيوسياسية.
وعلى الرغم من حقيقة أن لينش لم يذكر برنارد لويس بالاسم، إلا أنه صاحب فكرة «نهاية الشرق الأوسط»، (أوّل من تكلّم عنها في حدود علمي) واتساعه لكيانات جديدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومحاولة قوى مركزية، وأُخرى هامشية (المركز والهامش إضافة من عندي) الاعتماد على نفسها بعد تغيّر الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة في العالم.
نشر لويس كتابه في العام 2011 بعنوان «نهاية التاريخ الحديث في الشرق الأوسط». وهذا العنوان كما لا يخفى على اللبيب لا يقل إثارة عن عنوان لينش.
المهم، في فرضيات لينش، وقبلها لويس، ما يُحرّض على التفكير والتدبير. هذا لا يعني التسليم بكل شيء، بالضرورة، بل يعني أن الحقل السياسي الذي لا يغتني بفرضيات وأسئلة جديدة بليد وميّت.
لا تموت الحقول السياسية في العالم العربي لأن الناس بلا عقول، بل لأن الحقل مُحتكر ومسيّج بالدولة، ومأهول بأدواتها السياسية والإعلامية، وحرابها الأمنية، إضافة إلى انكشارية جديدة تنتج الخطاب.
هذا على الصعيد النظري المحض، ولكن من الحماقة وعمى البصر والبصيرة، تجاهل معطيات على الأرض. فما حدث ويحدث من تحوّلات استراتيجية، وبعيدة المدى في الحواضر، وعلى الأطراف، لا يجعل لكلام من نوع «الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة» محلاً من الإعراب، وهذا يصدق على جغرافيا متخيّلة من «المحيط الهادر إلى الخليج الثائر».
ومع هذا كله في الذهن، نعثر في مقالة لينش على فرضية مفادها أن أهمية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي صارت تحظى بقدر غير مسبوق من الاهتمام في الجامعات الأميركية، وأروقة الكونغرس، أكثر من بلدان المنطقة العربية في الوقت الحاضر. وفي السياق نفسه صارت أوروبا والأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية ساحات صراع مركزية بالنسبة للقضية الفلسطينية أكثر من العالم العربي.
ولا يحق لنا تجاهل فرضية كهذه، وعدم أخذها على محمل الجد. فهي صحيحة ولا ينبغي أن تكون صادمة (إلا لمن يفشل فطامه) ويمكن أن نخرج منها باستنتاجات لا حصر لها. ولكن، وبقدر ما أرى الواقع فإن رهان الفلسطينيين على الحواضر سيظل رهاناً تاريخياً صالحاً وصحيحاً بالمعنى الاستراتيجي.
نعثر على ما يبرر هذا الرهان في قوانين وإكراهات التاريخ والجغرافيا. ولا أجد ما يبرر الاستفاضة في هذا الجانب، بل ويمكن الاستعانة بفرضية جاءت في مقالة لينش لتوضيح هذه المسألة. ففي سياق تحليله للعلاقات والمصالح التجارية والسياسية والأمنية الجديدة (وما طرأ على حركة رأس المال من تغيّرات في زمن العولمة) يرى أن ممالك النفط الغنية صارت من ناحية فعلية مراكز للرأسمالية العالمية.
يمكن لفرضية كهذه، وهي ذهبية فعلاً (وقد تناولتها بالتحليل والتدليل، من جوانب مختلفة، على مدار السنوات القليلة الماضية) أن تفسّر أشياء كثيرة منها حروب الثورة المضادة منذ اندلاع موجة الربيع العربي قبل ما يزيد على عقد من الزمان، وكذلك تحوّلات استراتيجية بعيدة المدى من نوع «سلام إبراهيم». ومع ذلك، ما يعنينا، الآن، يتمثل في حقيقة أن إسرائيل طرف فاعل في عملية تشكيل المنظومة الأمنية، والسياسية، والثقافية، والديمغرافية لمركز متعدد الرؤوس لرأس المال المعولم، وأن الحواضر هي السوق المرشحة للاستهلاك، وتوريد المواد الخام، والمنتجات الزراعية، والقوى العاملة والجنود. عالم جديد شجاع، بلغة الدوس هوكسلي، وطبقاته الاجتماعية المتخيّلة.
هذا هو المعنى العميق لسلام المصالح، والشرق الأوسط الجديد، الذي يعتقد البعض أنه يمثل الوصفة السحرية لحل كل القضايا العالقة، وتحويل المنطقة وشعوبها إلى وسيلة إيضاح لتعبيرات، بلا معنى تقريباً، من نوع «السعادة» و»التسامح». سيمكّن رأس المال المعولم هذا نسبة مئوية (أقل من عشرة بالمائة من سكّان الحواضر على الأرجح) من العيش في جنة الليبرالية الجديدة، ولا أستثني الفلسطينيين سيدخل عشرة بالمائة منهم الجنة نفسها.
ولكن، ماذا عن الذاكرة الجمعية؟ وماذا عن التفاوت الطبقي، والنزوع إلى الحرية؟ (هذا إذا غضضنا النظر، طبعاً، عن أسئلة من نوع الكولونيالية، والتحرر القومي) في أسئلة كهذه سيجد تسعون بالمائة من الفلسطينيين، وتسعون بالمائة من سكّان الحواضر الكثير من القواسم المشتركة، فكل الطرق تؤدي إلى روما.
وروما الجديدة (بصرف النظر عن زناخة التاريخ وميله إلى المزاح الثقيل) هي منظومة رأس المال المعولم، العابر للقضايا القومية، والإثنية، والثقافية، التي صارت إسرائيل مركزها وحاميها، تحت سقف أشمل يضم الصينيين والهنود، وربما بتقاسم الحصص مع الأتراك والإيرانيين. هذا يستدعي أكثر من حرب ضروس، وليس موضوعنا الآن. فاصل ونواصل.