السودان يضربه الجُنون!
مهما كانت الخلافات والاختلافات قد تعمّقت بين صفوف «المكوّن» العسكري في السودان، فإنّ أحداً لم يتوقّع اللجوء إلى العنف وقتال الشوارع، وبكلّ أنواع الأسلحة، وعلى هذا النحو الكبير والواسع.
وحتى الذين شكّكوا بإمكانية الجلوس إلى طاولة المفاوضات، في محاولةٍ لدرء الأخطار، وتجنُّب سيناريوهات الاقتتال، لم يصلوا في شكوكهم إلى توقّع الصدام كبديلٍ حتمي لحالة الاحتقان التي كانت تسود بين المكوّنَين العسكريَّين في السودان.
ما جرى في السودان، وما يجري، وما زال يجري فيها، يُعيدنا، ويجب أن يُعيدنا، إلى دور الجيش في البلدان العربية، وعلاقة هذا الدور ببنية الدولة والمجتمع في هذه البلدان.
على مدى سنواتٍ طويلة قمنا بتدريس مساقٍ في جامعة القدس «الجيش والسلطة والدولة في الوطن العربي»، (بعض الزملاء وأنا) في محاولة ــ أرى أنها كانت ناجحة ــ لتبيان وتوضيح خطورة وأهمية هذا الدور في الواقع العربي.
وفي هذا السياق، كان لا بدّ من المرور على تجارب ملموسة على الصعيد الدولي، قبل الدخول في التجربة العربية الخاصة على هذا الصعيد.
بطبيعة الحال تبيّن لنا من خلال تعاون ثُلّة من الطلّاب النُّجَباء والمجتهدين مع أعضاء هيئة التدريس بمعهد الدراسات الإقليمية في الجامعة، وكان هذا المعهد من أهم المعاهد، وأكثرها تميُّزاً في كلّ الجامعات العربية، وذلك بالنظر إلى غِنى وتميُّز المواد التي كانت تُدرّس فيه، وبعناوين ومساقات لا أعتقد أنّ جامعةً عربية قد تجرّأت على تدريسها، مثل مساق الجيش، أو مساق «الدّين والدولة في الوطن العربي»، أو «الأقليات في الوطن العربي»، أو غيرها الكثير الكثير من المواد والمساقات التي تتصل بالبعد الملموس للعلوم السياسية الحقيقية، وليس العلوم النظرية الجافّة، والأكاديمية المجرّدة.. تبيّن لنا أنّ دور الجيش في الوطن العربي أكبر بكثير مما يبدو عليه، وهو دور أخطر من كل تصوّر مُسبق، وأن الوطن العربي الذي لعب في تطوّره «المكوّن العسكري» لم يكن استثناءً، وأن الجيش قد لعب إلى هذه الدرجة أو تلك، وبهذا القدر أو ذاك مثل هذا الدور في تجارب تطوّر بلدان كثيرة، متوسّطة التطوّر في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، وفي بلدان غربية أوروبية كذلك.
هُنا نستذكر مثل هذا الدور في البرازيل والأرجنتين، وفي الباكستان وإيران، وفي تركيا واليونان، وفي إسبانيا والبرتغال، وفي كوريا الجنوبية سابقاً. وهذه ليست سوى أمثلة ونماذج دور الجيش، وتأثيره على مُجريات التطوّر فيها.
بل وأظنُّ أبعد من ذلك، أنّ هذا الدور في قادم الأيّام سيلعب أدواراً حاسمة في بلدان غربية ترى نفسها «متطوّرة»، وأنّها بعيدة عن دور الجيش، ولا أرى أنّ دولة الاحتلال نفسها وبالذات باتت بعيدة عن مثل هذا الواقع.
وبالعودة إلى دور الجيش في الوطن العربي، فمن الواضح أنّ هذا الدور قد لعب دوراً محورياً في البلدان العربية بُعَيد مرحلة «الاستقلال» العربي، مع نهاية حقبة الاستعمار المباشر وحصول هذه البلدان على «الاستقلال» الذي تبيّن أنه ليس سوى الطريقة التي أعاد بها الاستعمار سيطرته على هذه البلدان في مرحلة الاستعمار الحديث.
حاول الجيش في البلدان العربية أن «يتمرّد» على حالة الهوان التي ميّزت مرحلة «الاستقلال»، وكردّ فعل على ضياع فلسطين، وفي ظلّ وجود بديل دولي للهيمنة العربية تمثّلت بصعود دور الاتحاد السوفياتي، حاول الجيش أن يمسك بزمام الأمور في البلدان العربية، ونجح بما هو أبعد وأعمق من الانقلاب في الحالة المصرية «23 يوليو 52»، وإلى حدّ ما في الحالة العراقية إثر «ثورة تموز 58»، وإلى حدود أقل في سورية وليبيا والسودان.
لعب الجيش دوراً وطنياً صريحاً في بعض البلدان العربية، وأسّس لتحوّلات اجتماعية كبيرة لكنه كبحَ جماح التحوّلات السياسية والديمقراطية في معظم الحالات العربية، وعطّل المسار المدني للحياة السياسية، و»أصرّ» على لعب دور «المركزي» في هذه الحياة.
تضيق المساحة للاسترسال في هذا المجال، لكننا نحتاج إلى تلخيص وتكثيف هذا الدور في المستويات التالية.
أوّلاً: تناسب دور الجيش أحياناً طرديّاً، وأحياناً عكسيّاً، مع المعارك الوطنية والقومية، ومع التطوّر الديمقراطي والحياة السياسية، ولم يكن دور الجيش دوراً واحداً ومُوحَّداً في كل البلدان، لأن الأمر تعلّق بدرجة نضج الحياة السياسية من جهة، ومدى رُسُوّ العلاقات الاجتماعية في كل بلدٍ على حدة من هذه البلدان.
ثانياً: في بعض البلدان كان للتدخل «الفظّ» من قبل الجيش في الحياة السياسية الوصول إلى حافّة الحرب الأهلية، في حين منع الجيش، وقطع الطريق على هذه الحرب في بلدانٍ أخرى.
ثالثاً: تداخل الأمن، أذرعاً ومؤسّسات مع مؤسّسة الجيش، في حين بقي الأمن بأذرعه المتعدّدة والكبيرة والغامضة مفصولاً عن هذه المؤسّسة. وتبيّن الآن أن هذا التداخل كان أحد مصائب التدخّل العسكري في الحياة السياسية.
رابعاً: استأثر الجيش بنصيبٍ كبير من الفضاء الاقتصادي في بعض البلدان، (الحالة المصرية فاقعة على هذا الصعيد) في حين لا يمكن الحديث عن سطوة أو سيطرة أو استحواذ للجيش في بعض بلدان أخرى، وأكثر ما يمكن الحديث عنه في هذا المجال هو الامتيازات والمكاسب الخاصة، وليس المُلكية والاستحواذ.
خامساً: تداخلت مصالح بيروقراطية الدولة مع بعض القطاعات الطُفيلية في الاقتصادات العربية، وكانت الامتيازات والمكاسب هي أقرب إلى حالة البلدان الريعية، و»الملكيّات» العربية، في حين أن تحالف بيروقراطية الدولة والرأسمال الطُفيلي في البلدان التي لعب فيها الجيش الدور المحوري لم يسرِ عليها بالكامل وبالضبط هذا المسار كما في بلدان الملكيات وفي البلدان الريعية الخالصة.
ما حصل في السودان، وما يجري فيه، له علاقة مباشرة بكل هذا الواقع، خصوصاً أن هذا البلد قد عانى كثيراً من دور الجيش، ومن دور الانقلابات العسكرية منذ انقلاب «إبراهيم عبُّود» وحتى يومنا هذا، وإذا كان هناك ما يُميّز السودان بالذات على هذا الصعيد بالذات، فهو أن السودان افتقد المسار السياسي الطبيعي، إلّا في مراحل عابرة، وبقي ينتقل من انقلابٍ إلى آخر، على الرغم من وجود مجتمع مدني وسياسي، وأحياناً وجود تراث يساري وديمقراطي عريق في هذا البلد عاثر «الحظّ»، وشديد الفقر والحرمان.
والمفارقة المُحزنة على هذا الصعيد أن سلسلة الانقلابات السودانية قد أجهضت بالكامل استغلال موارده الغنية على مستوى الأمن الغذائي القومي كلّه، وعلى مستوى موارده البشرية المميّزة عن الكثير من البلدان، كما أن أكثر المفارقات مأساوية في هذا الدور للجيش فيه قد انطوت على عنفٍ وتصفية للحركة الوطنية في مرحلة جعفر النميري حين أعدم بكلّ خِسّة ونذالة الشهيدين: عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ، وقتل وسحل آلاف الكوادر الوطنية واليسارية السودانية، وانتهى به الأمر إلى تهريب «الفلاشا» إلى إسرائيل، في حين أقام عمر البشير نظاماً لـ «الإخوان»، انتهى إلى ضياع الجنوب السوداني، وجاء عبد الفتاح البرهان لكي يصل إلى «التطبيع» مع إسرائيل كملاذٍ للخروج من «أزمة» الوصمة الإرهابية، ولكي يُحكِم سيطرته على السودان بمساعدة الأذرع الأمنية الإسرائيلية.
والأمر لا يقتصر على البرهان، وإنما يسري في الواقع على كل قيادات وأذرع الجيش والأمن المتصارعة اليوم بالأسلحة الثقيلة في الخرطوم، وفي معظم الأقاليم.
للأسف، وكما ضاع الجنوب في السودان، فإن خطر التقسيم والانقسام، وشبح الحرب الأهلية الطاحنة يطلان من بين ثنايا هذا الاقتتال، مع أنّ ربح هذه المعارك هو عنوان للخسارة يستحيل أن يتماسك أي مجتمع إذا كان هناك تعدّد للسلطات، أو ازدواجية للسلطة، ولم يدرك الإخوة السودانيون، ولم يتعلموا من «الدرس» الفلسطيني الذي أوقع الانقلاب، والسلطة الموازية، والانقسام والوصول إلى حافة الانفصال.
وأغلب الظنّ أنه من دون كفّ يد الجيش بالكامل عن الحياة السودانية، خصوصاً الحياة السياسية، وكفّ يد كل الأجهزة الأمنية عن التحكُّم بهذا البلد العزيز على قلوب العرب كلهم، فإن السودان مهدّد بالمزيد من التفتُّت، والمزيد من الويلات من كل نوع.