حرب أهلية في السودان
طبول حرب أهلية تقرع في السودان، وانطلاق شرارة الحرب يعني أنها بدأت، ولن تنتهي إلا بهزيمة أحد أطرافها. وتؤكد طبيعة وتفاصيل هذه الحرب على صعوبتها، لأنها تأتي بين غريمين، كانا في الأصل شريكين، يعلمان بخفايا بعضهما البعض، وبين قوتين عسكريتين، هما الجيش وذراع من أذرعه، الأمر الذي يشير إلى مقدار التكلفة البشرية والمادية والعسكرية التي سيتكبدها السودان بطول أمد هذه الحرب، ناهيك على أنها حرب ممتدة في جميع أنحاء البلاد، وليست حصراً في جنوبها أو غربها، بل أن العاصمة الخرطوم مركزها، الأمر الذي يعكس تكلفة سياسية إضافية مهمة.
وتثبت تجربة السودان مرة أخرى أن ثورات "الربيع العربي" لم تأت مطلقاً بالربيع للعرب، بل على العكس، أتت بانتكاسات متتالية، لأن الطريق للتقويم لا يأتي فجأة أو بأوامر أو مؤامرات خارجية، وإنما عبر عملية ثقافية واقتصادية وسياسة متكاملة وتدريجية حكيمة. كما تثبت الأيام أن تدخل الولايات المتحدة للضغط على أنظمة الحكم في البلدان المختلفة، تحت شعار "تحقيق الديمقراطية"، يأتي في العادة لصالح أهدافها في تلك البلدان، ودون أي مراعاة لطبيعتها السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الدينية، الأمر الذي يقود للفشل الذريع في النهاية، ودفع شعوب تلك البلاد الأثمان الباهظة.
رغم فقرها، تعد السودان ثالث أكبر دول أفريقيا مساحة، وذات موقع استراتيجي مهم، فتمتلك ساحل طويل على البحر الأحمر، الممر الرئيس لسوق البترول والسلاح لدول المنطقة وخارجها، وتشترك وحدها بحدود مع جميع الدول المشاطئة لنهر النيل، الأمر الذي يعكس أهميتها الإقليمية، هذا بالإضافة لغناها بالموارد الطبيعية وعلى رأسها الذهب، الأمر الذي يفسر اهتمام القوى الدولية والإقليمية الرئيسة بها.
منذ سقوط نظام البشير عام ٢٠١٩، في أعقاب ثورة شعبية طالبت بالديمقراطية اندلعت في العام الذي سبقه، لم ينعم السودان بالاستقرار أو بالأمن، ولم يتحسن وضعه الاقتصادي، إذ يعاني ثلث السكان اليوم من الفقر، وترتفع نسبة البطالة وتنخفض قيمة العملة، ويزداد غلاء المعيشة. ورغم مطالب الثورة والقوى المدنية في البلاد بحكم مدني لا يخضع لسيطرة العسكر، جاء في أعقاب الثورة حكومة انتقالية، لمدة ثلاث سنوات، تعد لانتخابات حرة، تم تقاسم السلطة فيها بين القوى المدنية والعسكرية، مع بقاء الغلبة للقوى العسكرية، حيث ترأس عبد الفتاح البرهان قائد الجيش مجلس السيادة في البلاد، وعين نائبه في المجلس محمد حمدان دقلو "حميدتي" قائد قوات الدعم السريع، وهي قوات شبه عسكرية وتعمل كذراع من أذرع الجيش. وكافأت الولايات المتحدة السودان وبدأت برفع العقوبات الاقتصادية عنها، والتي كانت مفروضة على حكومة البشير، كما رفع السودان من قائمة الإرهاب، في أعقاب تطبيع إدارة البرهان العلاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. في العام ٢٠٢١ انقلب البرهان على الحكومة الانتقالية، وأعلن حكماً عسكرياً منفرداً على البلاد بمساعدة شريكه حميدتي. في العام التالي ضغطت القوى الخارجية بقيادة الولايات المتحدة على البرهان للانخراط في اتفاق إطاري مع القوى السياسية المدنية في البلاد لترسيخ حكم مدني، والإعداد لانتخابات نزيهة. بدأ الخلاف يظهر في تلك اللحظة بين الشريكين العسكريين، حيث كان المطلوب دمج قوات حميدتي ضمن الجيش كمرحلة أولى، وتشكيل حكومة مدنية حاكمة في المرحلة الثانية. اعتبر حميدتي، الذي طالب أن يكون الدمج في غضون عشر سنوات، بينما أصر البرهان أن يكون ذلك في غضون عامين، مؤامرة لتصفيته، دون وجود ضمان لإنهاء سيطرة الجيش. والمشكلة التي يعاني منها السودان اليوم، والتي تشير إلى صعوبة وخطورة الحرب الاهلية الحاصلة، ليس فقط لسيطرة الجيش على البلاد، الذي يستطيع حسم أية معركة داخلها، كما حدث في تجارب أخرى لثورات "الربيع العربي"، وإنما لانقسام القوة العسكرية في السودان بين قوتين، الجيش وقوات الدعم السريع. نشأت قوات الدعم السريع شبه العسكرية في العام ٢٠١٧، بقرار من البشير، وجاء ظهورها في البداية كقوات شبه عسكرية في العام ٢٠٠٣ لمساعدة الجيش في قمع التمرد في دارفور، وتطورت مكانتها وارتباطها الرسمي بالجيش عبر السنوات الماضية. لا يمتلك قطبا الحرب اليوم في السودان قوة عسكرية منافسة فقط، بل قوة اقتصادية وتجارية هائلة، ناهيك عن اتباع او شركاء مدنيين سياسيين، أي أنها معركة صفرية، الأمر الذي يستشرف ضراوتها.
يظهر أثر التدخلات الخارجية في البلاد منذ عهد البشير، الذي عانت البلاد تحت حكمه من عقوبات غربية قاسية، فكانت السودان أحد محاور "قوى الشر" المتحالفة مع إيران، ودعمت حركة حماس وحزب الله، واعتبرت عدواً مباشراً لإسرائيل، التي شنت غارات لاستهداف ترسانتها العسكرية بالفعل. بدأ التحول في سياسة البشير عن التحالف مع إيران في العام ٢٠١٦ وبدأ يقترب من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية، ويقلص علاقاته مع تركيا وقطر. إلا أن التحول الحقيقي جاء بعد الثورة وسقوط نظام البشير وصعود البرهان الى سدة الحكم، فسقطت العقوبات عن البلاد، وكوفئ السودان أميركياً بعد تطبيع علاقاته مع إسرائيل في العام ٢٠٢٠، برفعه من قائمة الإرهاب، وسط استهجان شعبي واستغراب إقليمي. وتوحدت أجندات البرهان وحميدتي الخارجية بحكم موقعهما، فارتبط الرجلان بعلاقات جيدة مع مصر والمملكة السعودية ودولة الامارات، وكان للرجلين دور مهم في إرسال قوات سودانية لدعم المملكة في الحرب الدائرة في اليمن. وقد تفسر تطورات الحرب الروسية الأوكرانية سرعة التفاعلات التصادمية التي حدثت في البلاد، وخصوصاً دعم الولايات المتحدة لإقناع الأطراف بضرورة وسرعة تبني اتفاق الاطار قبل أشهر، والذي يركز على دمج أو حل قوات حميدتي، الذي يرتبط بعلاقات شراكة خاصة مع منظمة فاغنر الروسية، التي لها قواعد ومصالح تجارية في البلاد، خصوصاً ما يرتبط منها بسوق الذهب، حيث يعتبر حميدتي الرجل الأقوى في السودان في مجال هذا السوق، كما تعتبر فاغنر مصدراً عسكرياً من حيث التدريب والعتاد لـقوات حميدتي.
تميل الدول العربية الحليفة للسودان كمصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية لدعم البرهان على حساب حميدتي، على أساس انه الجهة الرسمية الممثلة للسودان اليوم لقيادته للجيش، وهو الأمر الأقرب الى المنطق، بينما يقف الشعب السوداني حائراً، فبينما لا يريد انهيار وهزيمة جيش بلاده، إلا أنه يعارض تحكمه بقرارها السياسي. وتدعم الولايات المتحدة دون شك البرهان لأنها تريد هزيمة حميدتي وطرد قوات فاغنر الروسية من السودان. والحقيقة أن المعركة ستستمر إلى أن يحسم نتائجها أحد أطرافها، وسيدفع السودان ثمن هذه المعركة من دماء أبنائه ومقدراته، فهو الخاسر الحقيقي في هذه الحرب.