نتائج الانتخابات التركية المؤثرات والمتأثرات
تلقي الانتخابات التركية الرئاسية والبرلمانية القادمة بعد عشرة أيام الضوء على قضايا داخلية محددة لنتائج الانتخابات، وأخرى خارجية ستتأثر بتلك النتائج.
تقف القضية الأيديولوجية على رأس القضايا المؤثرة على نتائج هذه الانتخابات، نظراً لطبيعة التركيبة الشعبية في البلاد، والتي عملت المعارضة على استخدامها بشكل مغاير في هذه الانتخابات عن الانتخابات الأخيرة الماضية، ما يعد عاملاً مؤثراً على نتائجها بشكل مختلف هذه المرة.
وقام النظام التركي خلال الفترة الماضية بتفكيك أسانيد المعارضة، الممثلة بتحالف الطاولة والذي يقف على رأسه حزب الشعب الديمقراطي بقيادة رئيسه كمال أوغلو، والتي ساقتها خلال المنافسة الانتخابية المحتدمة مع الرئيس التركي والحزب الحاكم، خصوصاً فيما يتعلق بالقضايا الداخلية، وتحديداً القضية الاقتصادية، في ظل اشتداد حدة الاستقطاب والمنافسة بين الطرفين، خصوصاً مع اقتراب يوم الانتخابات التي ستؤثر نتائجها دون شك على سياسة تركيا الخارجية، والتي تعد حجر زاوية في سياسات المنطقة، انطلاقاً من مكانة تركيا الإقليمية، وحالة الاستقطاب الدولي المتصاعدة في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية.
نجح حكم أردوغان على مدار أكثر من عقدين في تأسيس قوة اجتماعية متماسكة ومحافظة في البلاد تشكل أكثر من ٦٠ بالمائة من المجتمع التركي، وتدعم الأغلبية منها حزبه الحاكم، بالإضافة إلى إيمانها به، كشخصية كاريزمية مؤثرة، لا يمتلك ملامحها أي من القيادات التي تقف اليوم في الساحة السياسية التركية اليوم.
كما استطاع أردوغان خلال سنوات حكمة الماضية بضمان نسبة تأييد لحوالى ٤٠ بالمائة من الأكراد في البلاد.
فبعد أن قمعتهم الحكومات العلمانية، على غرار الأقليات الأخرى، عزز أردوغان علاقته بالأكراد بعد صعوده للحكم.
وهناك ما يزيد على ١٥ مليون كردي، أي تتراوح نسبتهم من مجمل عدد السكان في البلاد ما بين ربع وخمس السكان، ما يفسر أهمية الصوت الكردي في أي معركة انتخابية.
ففي الانتخابات البلدية للعام ٢٠١٩ دعم حزب الشعوب الديمقراطية المعارض الكردي، والمتهم بالإرهاب، تحالف المعارضة وعلى رأسه حزب الشعب الديمقراطي العلماني وحزب الجيد القومي.
وفي هذه الانتخابات يستمر دعم الحزب الكردي المعارض لتحالف المعارضة، بينما يتحالف أردوغان مع حزب الهدى بار المحافظ الكردي، ما يعني تشتت الصوت الكردي في هذه الانتخابات.
ويضم تحالف المعارضة في هذه الانتخابات بالإضافة للحزب العلماني والحزب القومي والحزب الكردي، أحزاباً إسلامية، رغم ضعف مكانتها وتمثيلها في الشارع.
هذه التركيبة المختلطة لتحالف المعارضة تعكس انقسام الشارع الكردي والمحافظ، والذي تستخدمه المعارضة لجني مزيد من الأصوات لصالحها، ما يضفي الضبابية على التنبؤ بنتائجها، مقارنة بالمرات السابقة.
ورغم ذلك يبدو التناقض الأيديولوجي لتحالف المعارضة مضراً له، فالتناقض الواضح بين حزب الجيد القومي وحزب الشعوب الديمقراطية الكردي، والذي تسبب دعمه لتحالف المعارضة بانسحاب حزب الجيد في بداية ظهور هذا التحالف من هذه الانتخابات، ثم بعد ذلك انسحب أحد أعضائه البارزين، ما يشككك بمدى دعم غالبية مؤيدي حزب الجيد القومي، الذي يعتقد أنه يحصد تأييد ١١ بالمائة من جمهور الناخبين، لتحالف المعارضة، في ظل هذه التركيبة المتناقضة.
وعلى الرغم من تراجع الوضع الاقتصادي للبلاد منذ العام ٢٠١٨، وما لحقه من تبعات جائحة كورونا وآثار الزلازل المدمر، واستخدام المعارضة لذلك السبب المهم في تقويض أسهم حكومة أردوغان، إلا أنه استهل اللحظات الأولى من حملته الانتخابية لعرض إنجازات حكومته، من السيارات الكهربائية الجديدة إلى السفينة الهجومية البرمائية المجهزة بطائرات بدون طيار، ناهيك عن استعراض منشأة أكويو كأول محطة للطاقة النووية في تركيا، والذي يعد إنجازاً لا يمكن تجاهله لدولة تستورد ٩٩ بالمائة من طاقتها. كما روج أردوغان لمبادرته لأن تصبح تركيا مركزاً لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا، من خلال تحويل مسار الغاز الطبيعي الروسي من خطوط أنابيب «السيل الشمالي» إلى منطقة البحر الأسود وتركيا، وهو ما من شأنه أن يكون له صدى إيجابي على الاقتصاد التركي.
ولا يزال العديد من الجمهور يرى أن أردوغان وحكومته أقدر على معالجة آثار الزلزال، خصوصاً أن المناطق التي تضررت من الزلزال، وتمثل ٩٦ مقعداً في البرلمان، تعد من المناطق المحافظة، والداعمة لأردوغان وحزبه.
ويمتلك أردوغان وحزبه ثقة شعبية عالية بقدراته على البناء والتطوير، في ظل إنجازاته التي خلقت وضعاً مميزاً لتركيا خلال السنوات الماضية، وباتت ولا تزال، رغم مصاعبها الاقتصادية، واحدة من بين الاقتصادات العشرين الأولى على مستوى العالم.
إن تغير نظام الحكم المحتمل في تركيا قد يخل بالتوازن الاستراتيجي القائم اليوم في المنطقة، والذي تلعب تركيا في إطاره دوراً جوهرياً في ظل المقاربة السياسية الخارجية التي يتبناها أردوغان وحزبه الحاكم، خصوصاً في ظل اشتداد حدة الاستقطاب الدولي الحالي، والذي تأجج بوضوح خلال الحرب الروسية الأوكرانية.
لقد اعتمدت تركيا بعد وصول رجب طيب أردوغان وحزبه لصدارة السلطة في البلاد مطلع الألفية الجديدة سياسة خارجية،، تقوم على أساس تقاطع نظريتي العمق الاستراتيجي، والعثمانية الجديدة.
تعمل النظرية الأولى على ترجمة مكانة تركيا الجيوسياسية المميزة بين ثلاثة عوالم رئيسة الأوروبية والآسيوية والشرق أوسطية، وذلك بتبني استراتيجية تقف على مسافات متساوية من الجميع، دون الميل لتحالفات أو محاور إقليمية، وسياسة تتبنى استخدام القوة الذكية التي تتأرجح بين الناعمة والصلبة، في سبيل تحقيق أهدافها.
وتركز النظرية الثانية على اعتبار مكانة تركيا الدينية والتاريخية، وتتبنى استراتيجية تقوم على أساس كونها دولة قائدة في المنطقة، ترتبط بالأمة الإسلامية، لذلك تبنت استراتيجية تقترب فيها من الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، دون تخليها عن طابعها العلماني الديمقراطي.
وينفصل منهج السياسة التي يتبناها أردوغان وحزبه عن تلك التي حكمت تركيا لعقود طويلة وتقوم على أساس الارتباط بالغرب وكحليف استراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة طوال سنوات الحرب الباردة، ولم تستطع التحرر من تلك السياسة أيضاً طوال العقد الأول من بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
وخاض أردوغان أول اختبار لتطبيق سياسته الخارجية عندما رفض طلب الولايات المتحدة بالسماح لقواتها بشن هجومها على العراق في العام ٢٠٠٤، وتطورت بنسج علاقات استراتيجية مع روسيا والصين، وتعاونية مع إيران، ومستقلة خلال الحرب الروسية الأوكرانية.
ويعني سقوط حكم أردوغان وحزبه في الانتخابات القادمة عودة القاعدة الاستراتيجية السابقة للسياسة الخارجية والارتباط بالغرب والولايات المتحدة.
إن ذلك يفسر الدعم الغربي والأميركي لتحالف المعارضة بقيادة كمال أوغلو، والذي يبدو جلياً عند تتبع الإعلام الأميركي على سبيل المثال الذي لم يخفِ دعمه للمعارضة خلال انتخابات العام ٢٠١٨، وخلال الانتخابات الحالية، وذلك بالترويج لإيجابيات وصول المعارضة للحكم بالاقتراب من المنظومة الغربية، التي اختار أردوغان النأي عنها، والتخلص من عقوباتها، التي جاءت نتيجة سياسة حكومته. وزار السفير الأميركي لدى تركيا مرشح المعارضة كمال أوغلو نهاية شهر آذار الماضي، ما أثار استياء أردوغان.
واتهمت أنقرة بالفعل واشنطن بدعم وحماية المعارض التركي فتح الله غولن، الذي تتهمه تركيا بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة في العام ٢٠١٦، كما تتهمها اليوم في هذه الانتخابات بدعم المعارضة والتدخل بالسياسة الداخلية التركية.
ويبدو أن المعارضة أيضاً لا تخفي نواياها تجاه تبني سياسة خارجية متعارضة مع سياسة أردوغان باتجاه الاقتراب من الغرب، في حال فوزها في الانتخابات.
فجاء في وثيقة السياسات المشتركة التي أعلن عنها تحالف الأمة المعارض إلى أنه سيتم العمل على تعزيز التفاهم وبناء الثقة مع الولايات المتحدة الأميركية، وتكثيف الجهود بشأن إعادة تركيا إلى مشروع الطائرات المقاتلات (إف - 35)، في إشارة إلى الخلاف بين حكومة أردوغان والغرب لشرائها منظومة الدفاع الروسية (إس - 400). كما أكدت التصريحات التي أدلى بها أونال تشافيقجوز كبير مستشاري السياسة الخارجية لكمال أوغلو إلى عدم تكافؤ العلاقات بين تركيا وروسيا، وضرورة تقليل اعتمادية تركيا في واردات الطاقة الروسية، ومراجعة المشاريع المشتركة بين البلدين، فضلاً عن تأكيده على موقف السياسة الخارجية لبلاده كعضو في الناتو من الحرب الروسية - الأوكرانية.
في الختام، هناك من يراهن على أن فرص فوز المعارضة تفوق فرص استمرار أردوغان في الحكم، خصوصاً في ظل استثمارها التعدد الأيديولوجي، لحصد مزيد من الأصوات، وإثارتها للقضية الاقتصادية، وما يرتبط بها من مشكلة اللاجئين والزلازل، والتي أثرت بالفعل على شعبية أردوغان وحزبه، إلا أن تمثيل المعارضة لهذا التباين الأيديولوجي، في بلد تشكل فيه الأيديولوجيا محدداً مهماً، يعد مصدراً سلبياً، أكثر من كونه عاملاً لحصد الأصوات.
ويزيد من سلبية ذلك العامل لاقترانه لعدم الثقة الشعبية بالحكومات الائتلافية الهشة، التي عانت منها البلاد في الماضي، والتي تعد أساس التحالف المعارض في حال فوزه في الانتخابات المرتقبة.