تساؤلات حول هجوم الكرملين
مُحيّر جداً استيعاب الهجوم الذي وقع على مقر الكرملين مساء الثلاثاء الماضي، وسط اتهامات روسية لأوكرانيا ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية بتدبير وتخطيط هذه العملية الجريئة التي مست أهم حصن سياسي في كل الجغرافيا الروسية.
في ذلك اليوم حلّقت طائرتان مسيّرتان نحو مقر الرئاسة في الساحة الحمراء واستهدفتاه مباشرةً، في خطوة اعتبرتها الخارجية الروسية محاولة لاغتيال الرئيس فلاديمير بوتين الذي لم يمسسه سوء ولم يحدث أي تغيير في أجندته أو أجندة السياسة الروسية.
كل أصابع الاتهام الروسية ذهبت نحو أوكرانيا، وأشارت صراحةً إلى أن كييف اعتزمت اغتيال بوتين وحصلت على الدعم العسكري واللوجستي من واشنطن، غير أن شح الأخبار الرسمية حول الواقعة يدفع المتابعين لما يجري في موسكو وكييف للتساؤل عن مصلحة أوكرانيا وإمكانياتها الاستخباراتية للقيام بمثل هذا الفعل.
صحيح أن كييف تمتلك طائرات مُسيّرة من الولايات المتحدة الأميركية وتركيا تحديداً، لكنها تدرك مخاطر هذا التصرف وتبعاته على المستويين السياسي والعسكري، وربما ليس من مصلحتها أن تكون في «بوز المدفع» أمام أنياب الدب الروسي.
لمحاولة فهم واقعة الهجوم ينبغي طرح السيناريوهات المنطقية أو المعقولة، وهي أن منطقة إقلاع الطائرتين المسيّرتين حدثت داخل روسيا وليس في الأراضي الأوكرانية، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال تبرير تحليق الطائرتين فوق كل الأنظمة الدفاعية والرادارية الروسية لمسافة تتجاوز 750 كيلومتراً من آخر نقطة بين الحدود الروسية والأوكرانية إلى قلب موسكو حيث مقر الكرملين.
أحد الاحتمالات الواردة أن الطائرتين أقلعتا من منطقة قريبة جداً من الكرملين، بحيث كان من الصعب التعرف عليهما واستهدافهما بشكل سريع، والاحتمال الآخر أن تكون لدى أوكرانيا أعين في الداخل الروسي وهي من فعلت ذلك، أو أنها تعاونت مع واشنطن والمعارضة الروسية لشن هذا الهجوم.
كذلك أحد التخمينات الواردة لفك هذا اللغز مرتبط بروسيا نفسها، إذ من المحتمل أنها خططت ودبّرت للهجوم على أهم مقراتها حتى تلصق هذه التهمة بأوكرانيا وتعطي لنفسها الضوء الأخضر من أجل نقل المعركة إلى مُربّع آخر يتصل باستهداف القيادات السياسية الأوكرانية وعلى رأسها الرئيس زيلينسكي.
من المحتمل كذلك أن يكون الهجوم الروسي المُفتعل موجه بالتحديد للبيت الداخلي، من حيث تصوير العملية على أنها تهديد مباشر للأمن القومي الروسي وانتهاك خطير لسلامة الرئيس، وبالتالي تجييش مشاعر الرأي العام الروسي وجعله يلتف حول قيادته وموافقتها على كل الخطوات الحالية والمستقبلية بخصوص الملف الأوكراني.
أيضاً قد تكون هناك أطراف دولية أخرى ضالعة في الهجوم، لكنها أرادت تنفيذ هذه العملية حتى تبقى بعيدة عن دوائر الشك والاستهداف، وهناك الولايات المتحدة ودول أوروبية من بينها بولندا وبريطانيا والتشيك وجورجيا، وجميعها معنية بإضعاف روسيا وفشلها العسكري في أوكرانيا.
إذا كانت كييف ضالعة في هذا الهجوم، فقد يعني ذلك فشلاً كبيراً لكل المنظومة السياسية والعسكرية الروسية، لأنه حينما يصل جسم غريب معاد إلى أهم رمز سيادي حكومي لثاني أقوى دولة في العالم، فهذا قد يفهم على أن روسيا القوية مجرد «دب من ورق».
يُفترض أن تحيط بالساحة الحمراء والمقر الرئاسي في الكرملين كل أنواع التحصينات والحماية بالغة الأهمية، لأنه «مطبخ» بوتين السياسي ومنه يتخذ أهم القرارات في السياستين الداخلية والخارجية للبلاد، ومن الصعب تمرير أي رواية مرتبطة بعدم التهيؤ الاستباقي لأي تهديدات طالت الكرملين، أو «أخذونا في غفلة من أمرنا»!!
من المنطق القول إنه ليس من مصلحة أوكرانيا اغتيال الرئيس بوتين في عقر داره، ولا حتى من مصلحة الأولى نقل رسالة له بهذه الجرأة، لأسباب كثيرة تتعلق باستحالة الوصول إلى الرئيس مع كل التشديدات الأمنية لحمايته وكذلك الخوف من الانتقام ورد الفعل الروسي.
في كل الأحوال وبصرف النظر عن المخطط والمدبر لهذا الهجوم، لن تسكت موسكو وستستثمر ما جرى لتوسيع دائرة المعركة واستهداف قيادات سياسية والتخطيط لاستهداف زيلينسكي نفسه، بهدف محاولة كسر إرادة الجيش الأوكراني وإنهاء الحرب بأقل خسائر ممكنة.
من مصلحة روسيا إيجاد طريقة لتحقيق نصر على أوكرانيا وكلما كان بسرعة كلما كان أفضل للأولى، خصوصاً وأن تكاليف الحرب ترهق الموازنة العامة كثيراً وتستنزف من معنويات الجيش وخزينة السلاح، والأهم أن الرأي العام الروسي يعاني يوماً بعد يوم من تبعات هذه الحرب المستمرة إلى أفق غير معلوم.
من الوارد أن تستعجل موسكو حسم المعركة قبل وصول مختلف المعدات العسكرية الأميركية والأوروبية إلى أوكرانيا، ومن غير المستبعد أن تكثف ضرباتها الجوية على العاصمة كييف وتحشد أجهزتها الاستخباراتية لاستهداف زيلينسكي رأس
الحربة في هذه المعركة.