ثأر الأحرار واستحالة إلحاق الهزيمة بالشعب
سوف نحتاج إلى آلاف الصفحات وعشرات الدراسات الجادّة للإحاطة بمختلف جوانب معركة ثأر الأحرار، من أجل استخلاص العبر واكتشاف أوجه القصور والثغرات التي شابت الأداء الفلسطيني مع إظهار عناصر القوة لتنميتها وتعزيزها. يكفي أن نشير هنا إلى أن إسرائيل عمدت بعد معركة سيف القدس في أيار 2021 إلى تشكيل 14 لجنة تحقيق رسمية لدراسة الإخفاقات التي رافقت الأداء الإسرائيلي في تلك المعركة، وشملت الفشل الاستخباري وأداء القبة الحديدية، والجبهة الداخلية، والإعلام والدعاية والإعلام الجديد، والتنسيق بين الأجسام الرسمية بما فيها الأذرع العسكرية والأمنية، والأداء الدبلوماسي. بعض اللجان احتاجت إلى عدة اشهر للخروج بنتائجها وتوصياتها التي ظل معظمها طيّ الكتمان وحُصر الاطّلاع عليه بالجهات الرسمية المعنية. ما سبق يؤكد أن التقييم الموضوعي يحتاج إلى مراجعات مهنية متخصصة بعيدا عن لغة البيانات اليومية ذات الطابع التعبوي والعاطفي. وما يعنينا في هذا المقام هو الإشارة إلى بعض الحقائق الصريحة التي احتدم الجدل بشأنها خلال المعركة ويمكن لها أن تجيب على بعض الأسئلة المثارة.
الحقيقة الأولى التي ينبغي إبرازها هي أن هذه الجولة الأخيرة، هي عدوان على الشعب الفلسطيني كله، لا على فصيل أو منطقة جغرافية بعينها، وإن تركيز دعاية الاحتلال على استهداف حركة الجهاد الإسلامي وقادتها يأتي في سياق مساعي الاحتلال لتجزئة الساحات، والاستفراد بكل فصيل أو منطقة على حدة، إلى إظهار المعركة وكأنها جزء من جهود إسرائيل لمحاربة التمدد الإيراني المزعوم. صحيح أن حركة الجهاد لعبت دورا مميزا ومثابرا ومشهودا في المواجهات الأخيرة في غزة والضفة، ولكن يجدر التذكير بأن معركة "ثأر الأحرار" وثيقة الصلة بالاعتداءات المتكررة والمتصاعدة ضد المسجد الأقصى والقدس، وباغتيال الشيخ الشهيد خضر عدنان الذي مثّل استشهاده الملحمي صفحة مجيدة في نضالات الحركة الأسيرة والشعب الفلسطيني كله.
لا يمكن فصل هذا العدوان عن سلسة الاعتداءات على امتداد العامين الماضيين في الضفة بما فيها القدس، وتنفيذ عشرات الاغتيالات، والهجمة الاستيطانية المحمومة، والتنكيل بالحركة الأسيرة، وعمليات هدم المنازل والاعتقالات الجماعية ومنع اي نشاط فلسطيني في المناطق المصنفة (ج)، وكلها حلقات في نفس المخطط الهادف إلى استثمار الظروف الدولية والإقليمية والمحلية من أجل حسم الصراع بإجراءات أحادية وبقوة الحديد والنار، ومدخل هذا الحل هو القضاء على كل أشكال المقاومة.
هذه هي الجولة السادسة من جولات العدوان العسكري المفتوح على قطاع غزة خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة، وفي كل مرة تهدف إسرائيل إلى تحقيق بعض الأهداف الخاصة بوضعها الداخلي وتنافُس القوى السياسية فيها، إلى جانب هدف ردع الشعب الفلسطيني ومقاومته، وتكبيد الشعب كلفة دعمه للمقاومة واحتضانه لها، ودفع الناس للاعتقاد بأن المقاومة هي عبء عليهم بدل أن تكون رافعة لنضالهم الوطني ومحل دعمهم واعتزازهم.
الإنجازات الوحيدة لآلة الحرب الإسرائيلية هي قتل مزيد من الفلسطينيين ومعظمهم من الأطفال والنساء والمدنيين. ومن تقييم الجولات الست يتبين أن المقاومة تعود بعد كل جولة أقوى من الجولات التي سبقتها، وأن كل قائد يجري اغتياله يحلّ محله قائد جديد متحمس لإثبات دوره والثأر لسلفه. واللافت أنه في جميع جولات القتال التي وقعت وعلى الرغم من الخسائر الفادحة والمؤلمة التي تصيب الناس، فشل الاحتلال في الإيقاع بين الشعب والمقاومة، بل زاد تمسك الشعب بخيار المقاومة والتفافه حولها وحول رموزها، وباتت المقاومة، بأشكالها المتجددة، عنصرا رئيسيا لا يمكن تجاهله في معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
في هذه المواجهة كما في الجولات السابقة، ثمة ثلاثة عناصر ضرورية تأخذها المقاومة بعين الاعتبار عند اتخاذ أي قرار: الأول هو مصلحة الشعب، صحيح أن المقاومة هي التي تتحمل العبء الأكثر بما في ذلك الخسائر البشرية والمادية من تدمير للمنازل والممتلكات، لكن الشعب كله يتحمل النتائج ايضا، من خسائر فادحة في الأرواح والتشريد وتدمير البنية التحتية والرعب الذي يواجهه الأطفال وسائر المدنيين، والمعاناة الهائلة في توفير ضروريات الحياة، وخسارة أيام العمل والدراسة، واستنزاف الموارد الشحيحة اصلا، والضغط على المرافق الطبية الضعيفة. العاملان الآخران هما حماية الوحدة الوطنية وتثبيت قواعد الاشتباك التي تكرست بالدم والتضحيات وهي في حد ذاتها تعبير عن الكرامة الوطنية للشعب تلخصها معادلة أن المقاومة جاهزة للرد دائما على ضربات الاحتلال الغادرة، أي قرار للمقاومة ينبغي أن يوازن بين هذه الاعتبارات الثلاث بمعزل عن الخطابات الشعبوية التي تستعجل الردود الصاروخية وتضع نفسها مكان غرفة العمليات المشتركة، والمشكلة هي أن بعض هذه الأصوات نفسها هي التي تنتقد المقاومة إذا تأخر ردها ثم تواصل انتقادها إذا بادرت بالرد بزعم أنها تفاقم معاناة الناس.
تنطلق العقلية السياسية والعسكرية الإسرائيلية من قناعة مفادها أن إسرائيل انتصرت على العرب والفلسطينيين في جميع الحروب السابقة، وهي بذلك تملك القوة والقدرة على فرض وإملاء شروطها السياسية على الفلسطينيين بما يعني استسلامهم، طبعا هذا المنطق كان سائدا في العصور الوسطى ولم يعد ممكنا تطبيقه في العصور الحديثة، ولا في الحروب التي تخوضها قوى عظمى ضد دول وشعوب أضعف منها بكثير كما في فيتنام وأفغانستان، مشكلة إسرائيل انها تتناسى أن حروبها هذه ليست ضد دولة او نظام او جيش، بل هي ضد الشعب الفلسطيني وضد توقه للعيش بحرية وكرامة، وهي معركة يستحيل كسبها لاستحالة هزيمة الشعب.
يعرف الكل أن وضعنا الداخلي منقسم ومفكك، وذلك يضعف قدرتنا كشعب ومؤسسات على إدارة المعركة وتحقيق التكامل بين مختلف الساحات من جهة وبين أشكال العمل السياسي والدبلوماسي والقانوني والمقاوم والجماهيري من جهة أخرى، كان لافتا في هذه المعركة ضعف أداء السلطة، وكان معيبا وشائنا خروج بعض الأصوات التي بررت تقاعسها فاعتبرت ان ما يجري في غزة لا يعنيها بسبب الانقسام. وحبذا لو تجري محاسبة هذه الأصوات بعد انجلاء غبار المعركة.