عن الدور الإقليمي لإيران
بالعودة إلى دور الدول التي تلعب أدواراً متفاوتة في منطقة الإقليم، فإنّ إيران باتت ليس مجرّد واحدة من بين هذه الدول، وإنّما باتت دولةً "خاصّة" في هذا الإطار، وليس فقط "محوريّة"، وإنّما دولة تمتلك واقعياً الكثير من عناصر القوة والتأثير، واكثر منها في مجال التنافس مع باقي دول المنطقة، بالاعتماد على مقوّمات وإمكانيات هي الأكثر فعاليةً، والأكثر "استقراراً" من تلك التي تمتلكها الدول الأخرى من زاويتين على الأقل:
الزاوية الأولى، وهي أن الدور الإيراني في منطقة الإقليم العربي، و"الشرق أوسطي"، أيضاً، قد بقي قوياً ومُؤثّراً عندما كانت إيران تسير في الفلك الغربي، وفي الفلك الأميركي تحديداً، وكانت تُعتبر بمقاييس المصالح الإستراتيجية الغربية في المرتبة الثانية بعد إسرائيل، دون أن تكون هناك هُوّة كبيرة بين المرتبة الأولى والثانية، وكانت تتقدّم على تركيا بدرجات، وكان تحالفها مع إسرائيل، وإلى حدّ ما مع تركيا والعربية السعودية يمثّل خط الدفاع الإستراتيجي في مواجهة تأثير وفعالية الدور المتعاظم للدور المصري في مرحلة الزعامة التي مثّلها الرئيس جمال عبد الناصر، والمدّ "القومي" الكبير الذي شهدته منطقة الإقليم، والتحالف مع الاتحاد السوفياتي، وقيادته لحركة عدم الانحياز، ما اعتبره "الغرب" تحالفاً مُوجّهاً ضده، وحركة في مواجهة التوجّه "الغربي" كلّه.
أمّا من الزاوية الثانية فإنّ الدور الإقليمي لـ(إيران) قد عاد ليكون دوراً محوريّاً ومفصليّاً دون أن يكون جزءاً من تحالفٍ غربي، بل وبالنقيض من تحالف كهذا أحياناً. وبرأينا أن هذه المسألة بالذات هي المقصودة، وهي المؤشّر والدليل على خصوصية الدور الإقليمي لـ(إيران).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الدور الإقليمي لـ(إسرائيل)، وكذلك مصر وتركيا والعربية السعودية قد تأثّر تأثراً كبيراً في المراحل المختلفة بنمط وطبيعة العلاقة التي كانت تربط هذه الدول بـ"الغرب" وإستراتيجيته ومصالحه، في حين أنّ الدور الإقليمي لا يتأثّر، ولم يتأثّر بنفس الدرجة، ولا بحدّة هذه الدرجة في الحالة الإيرانية.
دعونا نتصوّر مثلاً كيف سيكون عليه الدور الإقليمي لدولةٍ مثل إسرائيل دون الحماية والرعاية والاحتضان الكامل من قبل "الغرب" كلّه، وحتى دون أن يكون هذا الاحتضان إلى هذه الدرجة من التستُّر على جرائمها!
أو دعونا نتصوّر كيف كان عليه الدور الإقليمي لـ(مصر) عندما كانت "تُقارع" "الغرب"، وكيف انتهى إليه هذا الدور عندما "سلّمت" مصر مفاتيح الإقليم العربي للولايات المتحدة (التي أصبحت في عُرف "المرحلة الساداتية"، واستمرت إلى هذه الدرجة أو تلك حتى الآن..) وتحوّلت (بقدرة قادر) إلى الدولة التي تمتلك 100% من أوراق الحلّ في المنطقة!
ويكاد يسري هذا الأمر على الأدوار التركية والسعودية من زوايا محدّدة، حتى وإن كانت هذه الزوايا متفاوتةً بين دولة وأُخرى من حيث الدرجة والتأثير.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالدور الإقليمي لإيران بعد "الثورة الإسلامية" فإنّ هذا الدور أصبح يستند إلى مُعطيات، وإلى مُقوّمات، وإلى برامج ومُخطّطات وطُموحات، ثم إلى ثروات وموقع جيوسياسي، وإلى سيطرة وتحكُّم بممرّات ومنافذ على أعلى درجات الأهمية والحساسية.
قاعدة الارتكاز الأولى في أيّ دور إقليمي هي وجود مشروع (قومي أو وطني أو دولي)، بصرف النظر عن شرعية أو مشروعية هذا المشروع، والحقيقة أنّ الدور الإقليمي بمعزلٍ عن وجود مشروع كهذا هو دور وهمي وزائف بل ومستحيل، أيضاً.
المشروع الصهيوني هو سرّ الدور الإقليمي لإسرائيل، والمشروع القومي كان هو سرّ الدور الإقليمي لـ(مصر)، والمشروع الذي شرع به "حزب العدالة والتنمية" في تركيا هو سرّ الدور الإقليمي لـ(تركيا)، والمشروع القومي الفارسي هو سرّ الدور الإقليمي لـ(إيران)، والمشروع السعودي هو بكلّ تأكيدٍ سرّ دورها القادم.
يُضاف إلى وجود مثل هذا المشروع لدى إيران، وغياب مثل هذا المشروع إلى حدٍّ كبير في الحالة العربية بالرغم من وجود بعض المؤشّرات على مشروع قادم، فإنّ إيران تمتلك مُقوّمات أخرى كثيرة، إن كان لجهة الثروات المادية والبشرية، أو لجهة الموقع الإستراتيجي، وقوّة وتأثير العامل الأيديولوجي.
والحقيقة هنا هي أنّ إيران قد نجحت إلى درجةٍ معيّنة في "استمالة" الشيعة العرب في الدفاع عن (المشروع القومي الإيراني)، بل وتمكّنت من "بناء" ميليشيات رديفة للدولة في المحيط العربي، وتمكّنت هذه الميليشيات من: إمّا شلّ مشروع الدولة، كما حصل في العراق، ولبنان، واليمن.. أو التحكُّم بمسار هذه الدولة إذا أُتيحت لها الفرصة، وأن تهدّد وجودها أحياناً إذا لزم الأمر!
واستطاعت إيران أن تحقق من خلال هذه الاستمالة، ومن خلال حاضنة شعبية واسعة طائفية أو شبه طائفية غالباً، وحاضنة شعبية أقلّ من خارج حدود الطائفة أو من خلال الميل والعاطفة الدينية، أو من قبل قوى معادية لأميركا وإسرائيل وترى في المواقف الإيرانية دعماً وإسناداً لها.. استطاعت إيران أن تحدث تأثيراً هائلاً في قوسٍ واسعٍ من مساحة المشرق العربي كلّه.
وتمكّنت إيران من "التحالف" مع الولايات المتحدة في حالتين فاقعتين لإسقاط النظام في العراق، وفي أفغانستان دون أن تتنازل عن دورها الإقليمي، بل لزيادة هذا الدور تحديداً.
واستطاعت إيران أن تبني تحالفات إقليمية ذات شأنٍ كبيرٍ في الحالة السورية، والحالة اليمنية، وأن تُحوّل جزءاً كبيراً من الشيعة العرب في العراق ولبنان إلى مصدر قوّة للمشروع الإيراني، بل وتمكّنت من أن يكون لها تأثير كبير على فصائل المقاومة في قطاع غزة، وأصبح القرار الإيراني لدى الفصائل المسلّحة فيها قراراً مُؤثّراً وحاسماً أحياناً.
وبَنَت إيران شبكة من العلاقات القوية، الاقتصادية مع دولة الإمارات العربية المتحدة، وأخرى سياسية مع دولة قطر، وعلاقات خاصّة ومتينة ومميّزة مع عُمان، ما يعني أنها تمتلك درجة لا يُستهان بها في التأثير على بلدان "مجلس التعاون الخليجي" نفسه، هذا إضافةً إلى شبكة من العلاقات الإستراتيجية الخاصة مع الصين وروسيا، ومع بلدان كثيرة تُعاني من المواقف العدوانية الأميركية، وتدفع أثماناً باهظة جرّاء مواقفها الوطنية المستقلّة، ورغبتها بالتخلُّص من الهيمنة "الغربية".
وتمتلك إيران القدرة على التحكُّم بالممرّات الإستراتيجية في منطقة الخليج، وخصوصاً مضيق هرمز، وهي باتت قوّة عسكرية كبيرة في مجال الدفاع الجوّي، وفي امتلاكها جيشا برّيا جرّارا مجهّزا بأحدث الأسلحة، ولديها تفوّق كبير في قواتها البحرية، حتى بالمقارنة مع البحرية الإسرائيلية نفسها.
وتتفوّق إيران في مجال البحث العلمي على كثيرٍ من دول الإقليم، وباتت تمتلك ناصية التكنولوجيا النووية، ويُمكنها أن تصنع القنبلة النووية متى "تشاء"، (هذا إذا ما كانت قد فعلت منذ زمن)، ولديها مؤسسات للحكم تتّسم بدرجةٍ معيّنة، وخاصة من المؤسّساتية، بصرف النظر عن أن هذه المؤسّساتية محكومة بسقوف مُؤطّرة في نطاقٍ مُسيطر عليه من قبل الإشراف العام للمؤسّسة الدينية.
الصراع بين إيران، وبالتنافس مع دول الإقليم الأخرى هو في جوهره صراع على النفوذ، ومزاحمة على الأدوار الإقليمية، وهي ليست على أيّ استعداد للتراجع عن الدور والمكانة التي تراها لنفسها في كامل منطقة الإقليم.