الضمّ والأمن خطّان متوازيان
يقول المثل الشعبي: "لو فيها زيت لضوت"، وهذا ما ينطبق تماماً على استمرار إسرائيل في محاولتها "تطبيع" احتلالها للأرض الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، أي منذ ست وخمسين سنة بالتمام والكمال، حاولت خلال تلك السنوات الطويلة أن تفعل، وجربت فعلاً كل شيء، حتى تجمع ما بين المستحيلات، أي أن تضم الأرض دون السكان، ومن ثم تظفر بالأمن والسلام، مع احتفاظها بأرض الغير، وقهرهم في نفس الوقت.
وقد حاولت إسرائيل أولاً إغراق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والقدس والضفة الغربية بشيء من رغد العيش، حيث فتحت أمامهم طوال عقدين من الزمان، ما بين عامَي 67 - 87، أسواق العمل الخاصة بها، فيما أغرقت أسواقهم المحلية ببضائعها، وبالطبع ولأن مستوى المعيشة الإسرائيلية مرتفع عن مستوى المعيشة العربي في دول الجوار، فقد ظنت إسرائيل أن الأمر استتب على ذلك الحال الذي كان عليه إلى أن اندلعت الانتفاضة الكبرى في كانون الأول 1987.
وقبل ذلك كان توقيع اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر، لكن ذلك لم يمنع من انفجار الوضع في وجه إسرائيل، التي اضطرت إزاءه أن تنحني قليلاً، وتدخل الممر الصعب عليها وهو طريق أوسلو، حيث قدمت ما اعتبره يمينها تنازلات، والمتمثلة بإقامة أول سلطة فلسطينية على أرض فلسطين، والبدء بتنفيذ أول خطوات انسحاب لاحتلالها لصالح الشعب الفلسطيني وليس لصالح أي دولة عربية، وحيث هدأ الأمر لأن الجانب الفلسطيني ظن أن إسرائيل ستلتزم بما وقّعت عليه، وأن الحصول على الانسحاب وإقامة دولته المستقلة ممكن بالسلام، وذلك أفضل من الحصول عليها بإراقة الدماء، لكنه بعد أن تأكد أن ذلك مجرد وهم؛ بعد أن تراجعت إسرائيل عمّا أحدثته فيها الانتفاضة من تغيير، اندلعت المواجهة في العام 2000.
وكان من أهم ما نجم عن تلك المواجهة، أن تراجعت إسرائيل كلياً عن اتفاق أوسلو، بل واقتحمت المدن الفلسطينية الخاضعة لولاية السلطة الوطنية، لكنها بنفس الوقت، انسحبت من جانب واحد من غزة، وجرّبت الخروج من داخلها واحتلالها من الخارج، بالحصار طبعاً، فيما أقامت جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، هذا الجدار، الذي كان يوحي بأنه تحديد للفاصل بين إسرائيل وفلسطين، أي أنه ترسيم للحدود من جانب واحد، حيث يمكن لإسرائيل أن تنسحب في أي لحظة من جانب واحد إلى ما وراء الجدار، رغم تقديم أمر إقامة الجدار لمتطرفي الداخل الإسرائيلي على أنه أمني وليس سياسياً.
وقد أقيم هذا الجدار بالطبع في عهد أرئيل شارون، هذا الذي اضطر لنزع عباءة الليكود، ليفعل ذلك، حيث إن اليمين بمن فيه الليكود بالطبع، وزعيمه بنيامين نتنياهو عارضا الانسحاب من جانب واحد من غزة، ومع أن حديثاً قد تم تداوله كثيراً في إسرائيل في ذلك الوقت، بأن انسحاباً مشابهاً في الضفة الغربية يمكن أن يحدث، بعد الوقوف عند مدى نجاح أو فشل تجربة الانسحاب من جانب واحد من غزة، فيما اعتبر تضمين الانسحاب الأحادي من غزة الانسحاب من شمال الضفة وتفكيك المستوطنات الثلاث قرب طولكرم، دليلاً على هذا.
لكن اليمين الإسرائيلي وعلى نحو أشد وقعاً اليمين المتطرف، المسكون بفكرة أرض إسرائيل الكبرى التي تشمل، بشكل أقل صخباً، كل الأرض الأردنية وجزءاً من العراق وصولاً للفرات، وبالطبع أجزاء من سورية ولبنان ومصر وصولاً إلى النيل، لا يقبل بالطبع فكرة الانسحاب، لا من الضفة الغربية مع تبادل أراض توازي الأرض التي أقيمت عليها المستوطنات التي يمكن أن تضم لإسرائيل في الحل النهائي، ولا من القدس المحتلة بالطبع، ولا حتى من 60% من الضفة الغربية، مقسمة على كانتونات كما كان يقترح العديد من المسؤولين السياسيين والأمنيين الإسرائيليين.
وإسرائيل، بكل تناقضاتها الداخلية، تسعى إلى تحقيق الأمن لمواطنيها، وإسرائيل بمتطرفيها تريد الاحتفاظ بالأرض الفلسطينية التي حصلت عليها بالقوة العسكرية بعد حرب وقعت بينها وبين دول الجوار العربي، وهي بذلك تسعى إلى جمع النقيضَين، وذلك أمر مستحيل، فليس الشعب الفلسطيني فقط، الذي من الطبيعي أن يقاوم الاحتلال، وليس بدافع أنه غير شرعي وحسب، بل لأنه يقهره يومياً وعلى مدار السنين الطويلة بما يجعل من حياته حياة غير طبيعية لا تشبه حياة البشر في أرجاء الكرة الأرضية، ولكن كل العالم، الذي يعتبر الاحتلال غير شرعي، ولا بد من وضع حد له، وذلك على المستوى السياسي، وكلما اقتربنا من المنطقة الأقرب لإسرائيل، تتسع حدة الاعتراض والتناقض مع الاحتلال الإسرائيلي.
هذه الحدة تصل إلى مستوى المواجهة بين الاحتلال الإسرائيلي ونواياه التوسعية في دول الجوار، من مصر والأردن، سورية ولبنان، ثم العراق وإيران وحتى تركيا، ولهذا فإن هذه الدول تعبر عن مواجهتها النوايا التوسعية الإسرائيلية بدعم كفاح الشعب الفلسطيني من أجل تحرير أرضه وإقامة دولته، ولعل الأردن بشكل خاص وأولاً، أكثر من له مصلحة في إقامة الدولة الفلسطينية على أرض الضفة الغربية، حتى تكون خط دفاع أول عن أرضه وحدوده، وحاجزاً بينه وبين النوايا التوسعية الإسرائيلية على حساب أرضه ودولته.
بعد مرحلتين كان أوسلو فاصلاً بينهما، نقصد الفترة الأولى ما بين عامَي 67 - 87، والثانية ما بين عامَي 94 - 2022، حاولت إسرائيل في الأولى تخدير الشعب الفلسطيني برغد العيش، وفي الثانية بإلهائه بسلطة وطنية محلية، أغرقته خلالها بمتواليات التفاوض، ونشر الوهم بأنها ستقبل بعد المؤقت بدائم يضع حداً للاحتلال، كانت إسرائيل على الأرض منخرطة في مشروع البناء الاستيطاني، بهدف جعل إمكانية إقامة دولة فلسطين المستقلة أمراً مستحيلاً، وهي وفي ظل أكثر حكوماتها تطرفاً، لا تحصل من خلال ذلك على الأمن، فأرض الضفة مشتعلة منذ سنوات، وكل ما تحاوله منذ خمسة عشر شهراً، عبر عملية "كاسر الأمواج" هو أن تضع حداً لمقاومة الاحتلال، ولكن عبثاً، وحتى إن وصلت إلى درجة ما من ذلك، فإن الاستيطان بالكاد يقترب بسكانه من ربع أو ثلث السكان الفلسطينيين، وذلك بعد 56 سنة من الاحتلال، هي 75% من عمر إسرائيل!
وحيث إن حصول إسرائيل على الأمن، لا يكون إلا مع حدود آمنة، أي مع دول جوار صديقة، لا تصطدم معها لا في المصالح، ولا النوايا، والأهداف، ومع داخل سكاني متجانس، فإن حصول إسرائيل على الأمن مع الاحتلال يكون أمراً مستحيلاً، فهي لا يمكنها ولا بأي حال أن تتحول مع الاحتلال والتطرف إلى دولة مدنية ديمقراطية، أي دولة لكل مواطنيها، دون تمييز عنصري.
ولعل آخر تعبيرات إسرائيل عن اضطرابها من داخلها، كما هو حالها مع الجوار، ذلك الخلاف الواقع اليوم حول جدار يعتزم الجيش الشروع قريباً ببنائه في منطقة التجمع الاستيطاني "غوش عتصيون"، وهي واحدة من أكبر المستوطنات التي أقيمت على الأرض الفلسطينية المحتلة، الواقعة جنوب القدس وبيت لحم، بهدف توفير الأمن لساكنيها، لكن ذلك يعني فصلها عن القدس التي تحلم إسرائيل بضمها منذ احتلتها عام 67، لهذا فإن أحزاب ونواب اليمين المتطرف في الكنيست يعارضون ذلك الجدار، وهكذا يصطدم الجيش الذي عليه مهمة توفير الأمن باليمين المتطرف، وبذلك يحاول الجيش أن يتابع عملية بناء الجدار الذي شرع فيه منذ العام 2002، أي منذ عشرين عاماً، دون أن يحقق الأمن لإسرائيل، ذلك أن الأمن بكل بساطة لا يتحقق بالبروج المشيدة، ولا بالتسلح بالقوة العسكرية الفتاكة، ولكن بحسن الجوار، وبنزع ثوب اللصوص وقطاع الطرق، أي ثوب الاحتلال، والتعايش مع الجيران ومجمل الإقليم باحترام حقوق الآخرين في أرضهم وحياتهم ومستقبلهم.