تركيا كنموذج لعدم تعارض الإسلام والديمقراطية والعلمانية
بعد معركة إنتخابية تميزت بالشفافية والنزاهة واحتدام التنافس فاز رجب طيب اردوغان في الدورة الثانية لولاية ثالثة، وحظيت هذه الجولة بكثير من الاهتمام المحلي التركي والعالمي وكانت محل اعجاب وتقدير من الجميع وتسابق مسؤولون وقادة الدول لتهنئة أردوغان وعلى رأسهم الرئيس الإسرائيلي والرئيس الفلسطيني ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية.
لن نعرج في هذا المقال المقتضب عن التباسات السياسة التركية تجاه العالم العربي وخصوصاً تدخلها في سوريا، والعراق وليبيا ولا عن التباس سياساتها تجاه القضية الفلسطينية وخصوصاً احتضانها لحركة حماس، ولكن وبشكل عام فإن السياسة التركية في عهد أردوغان سواء الداخلية أو الخارجية تستحق أن توصف بالظاهرة السياسية Political phenomenon، ولكونها ظاهرة أي متفردة بخصائص لا توجد بغيرها من التجارب الديمقراطية فهي تحتاج لمزيد من البحث والدراسة لعقل أسباب وملابسات ظهورها وعلاقتها بالسياق السياسي المتغير للنظام الدولي وللشرق الأوسط وعلاقتها بالجدل التاريخي حول العلاقة بين الإسلام والديمقراطية والعلمانية، وهل من تعارض بينهم.
كأية ظاهرة سياسية فإن استقراء الظاهرة مهم بنفس أهمية القياس والمقارنة، وعليه يجب عدم مقاربة السياسة التركية فقط من خلال مقارنتها بسياسة الأنظمة العربية أو بالديمقراطيات الغربية بل يجب أيضاً استقراءها كظاهرة تحكمها خصوصية الحالة التركية، حيث موقع تركيا وتاريخها يجعلها تؤثر وتتأثر بثلاث دوائر:
1- الدائرة الأطلسية حيث تركيا عضو في حلف الأطلسي وكانت وما زالت تسعى للانضمام للاتحاد الأوروبي
2- الدائرة الشرق أوسطية، فكونها دولة شرق أوسطية يفرض عليها استحقاقات لا مهرب منها وقد تجلى هذا الدور في تدخلها المباشر فيما يسمى الربيع العربي وفي القضية الفلسطينية.
3- الدائرة الإسلامية حيث تركيا الحالية وريثة الإمبراطورية التركية مركز الخلافة الإسلامية أيضا الطموح الشخصي لأردوغان الذي يتزعم حزباً بتوجهات إسلامية.
من الواضح أن الحكومة التركية بقيادة اردوغان استطاعت حفظ التوازن بين هذه الدوائر وهذا ما أطال في عمرها ومكنها من الاستمرارية والبقاء لأكثر من إثني عشر عاماً متحدية التحولات والتحديات التي عصفت بالعالم والمنطقة، حيث استطاعت حفظ التوازن بين:
1- عضوية الحلف الأطلسي والانتماء للشرق الأوسط ولمصالحها الوطنية وهذا ما ظهر جلياً في حرب أوكرانيا.
2- العلمانية والديمقراطية والإسلام، وقد سبق لأردوغان أن صرح خلال زيارة لمصر أنه رئيس حزب توجهاته إسلامية ويحكم دولة علمانية.
3- العلاقة مع إسرائيل وتأييد الفلسطينيين، فتأييده لحركة حماس وللفلسطينيين عموماً لم يؤثر على استمرار علاقاته الاستراتيجية مع إسرائيل.
4- حفظ التوازن في علاقته مع دول جوار متصارعة مع بعضها البعض وخصوصاً في السنتين الأخيرتين.
بالإضافة الى ما سبق تتميز التجربة الديمقراطية التركية بالمزج ما بين كاريزما اردوغان وبراغماتيته والاستحقاق الديمقراطي حيث كان لكاريزما اردوغان دوراً كبيراً في فوزه، وكاريزما اردوغان لا تعود لخلفيته الدينية فقط كما حاول البعض تفسير أسباب فوزه بل لما راكمه من نجاحات في النهوض بالدولة التركية موظفاً الدين لخدمة الدولة وليس العكس، فأردوغان قومي تركي سبّق مصلحة الأمة التركية على أي اعتبارات أخرى.
خلال زيارة رسمية لنا لتركيا في عام 2012 مع مجموعة من الزملاء التقينا مع الرئيس التركي عبد الله جول وخلال اللقاء طرحت عليه سؤالاً كيف يمكن لتركيا التي يقودها حزب إسلامي أن تحكم دولة علمانية وتقيم علاقة متميزة مع الغرب؟ وكان جوابه أن حزب العدالة والتنمية ليس حزباً دينياً بل حزب قومي بتوجهات إسلامية.
هذا يفسر لنا كثيرا ًمن السياسات التركية الحالية مثلا معاداته للحركة الكردية الانفصالية وكل عناصرها مسلمون وغالبيتهم سنة، أيضاً التدخل التركي الفج في شؤون سوريا والعراق وليبيا وهي دول إسلامية، واحتفاظ تركيا بعلاقاتها الجيدة مع إسرائيل بالرغم من الممارسات العدوانية والإرهابية الصهيونية بحق القدس والمسجد الأقصى الخ.
وأخيراً يستحق أردوغان كل الاحترام والتقدير لأنه أكد على النهج الديمقراطي وعلى أن الشعب هو المرجعية ومصدر السلطة وليس اي مرجعية أخرى حتى وان كانت دينية، كما أن الانتخابات التركية أثبتت ألا تعارض بين وجود مجتمع إسلامي ودولة علمانية وأن العلمانية لا تعني الإلحاد بل تحرير الدولة من سيطرة الجماعات الإسلامية واللاهوت الديني، وبهذا قلب اردوغان المعادلة التي دشنها مصطفى كمال اتاتورك مؤسس الجمهورية التركية في عشرينات القرن الماضي وهي المعادلة التي تقوم على التعارض بين الديمقراطية والحداثة والقومية والعلمانية من جانب والإسلام من جانب آخر حيث وقف أتاتورك موقفا مناهضاً للإسلام والمسلمين