أين المنظمة والسلطة؟ هدنة حماس: من الانقسام إلى الانفصال
منذ سنوات و"مقاومة حماس" في قطاع غزة تتحول تدريجياً و بانتظام إلى أداة لتكريس حكمها أكثر مما هي وسيلة لدحر الاحتلال. لقد تمكنت حماس خلال "حرب آيار 2021" من اختطاف هبة الشيخ جراح، والتضامن الدولي غير المسبوق معها ضد عنصرية الاحتلال في هذا الحي المستهدف بالاقتلاع والسيطرة الاستيطانية ، و معه عدد كبير من بيوت المواطنين في أحياء القدس المختلفة المهددة بالهدم والمصادرة، الأمر الذي كشف في نفس الوقت قلة حيلة كل من المنظمة والسلطة في ادارة المعركة بأي من أبعادها الجماهيرية أو السياسية والدبلوماسية أو حتى الاعلامية.
عادت حماس منذ تلك الحرب إلى مشروعها الأصلي، مُدَّعِيةً حقها الحصري في تمثيل الشعب الفلسطيني . وحتى تسوق لهذه المقولة امتشقت مجدداً "عقلانيتها" التي طالما انفردت بها حركة الاخوان المسلمين منذ انطلاقة الثورة في الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي. بالتأكيد ليس المقصود هنا الدعوة لاستمرار "الحرب"، بما يعنيه ذلك استمرار العدوان وجرائم القتل والتدمير التي تقوم بها حكومات الاحتلال الاسرائيلي دوماً بذريعة تختلقها أو بدونها . ولكن الواجب والمسؤولية يقتضيان تسليط الضوء و إجراء حوار هادئ حول مضمون الهدف الحقيقي الذي تريده حماس من ناحية، وتسعى إليه اسرائيل من الناحية الأخرى ، في ظل غياب مطلق و مريب لمنظمة التحرير والسلطة الوطنية والفصائل المنضوية في اطارهما. هذا في وقت تعتبر فيه المنظمة نفسها بأنها الممثل الشرعي الوحيد، كما تؤكد السلطة أنها تمثل الشرعية .
لقد اتضح الهدف الاسرائيلي بصورة جلية بعد ثلاث حروب محدودة شنتها حكومة الاحتلال، مستفردة بحركة الجهاد، و "محيِّدةً حركة حماس ". رغم محاولاتها تضليل العالم والمجتمع الاسرائيلي ذاته أنها في حروبها ضد الجهاد فهي تسعى لتصفية "ارهاب الجهاد"وقدراتها العسكرية، وما تسميه "الخطر الايراني" على تخوم خطوطها الجنوبية مع قطاع غزة . إلا أنها في حقيقة الأمر كانت نفس الوقت تفحص وتراقب مدى التزام حماس بتفاهمات "المال والاقتصاد مقابل الأمن والهدوء"، الأمر الذي يبدو أنه يترسخ يومياً كخيار متنامي من قبل اسرائيل، و قد بدأ عدد من كتّاب الرأي في اسرائيل يرّوجون لهذه المقولة ، و يطالب بعضهم “ جاكي حوجي- معاريف" باعتماد هذه التفاهمات كخيار استراتيجي وكونه السيناريو المفضل لاسرائيل لمرحلة ما بعد الرئيس عباس، وما قد يرافقها من احتمال تفكك أو انهيار السلطة في صراع الطامعين بوراثة الخلافة وفق متابعتهم لواقع السلطة ومراكز القوى فيها .
تطلعات وأطماع حماس للسيطرة على التمثيل والمنظمة ليست جديدة، ولكن الأهم هو ما لم يُلتَفت إليه لغاية الآن هو غياب أو تَغَيُّب المنظمة والسلطة عن القيام بأي من مسؤولياتها لمعالجة معضلات التمثيل التي تواجه شرعيتهما المتآكلة، سواء بالمراجعة، أو العودة للشعب وحقه الدستوري، أو الاقرار باستحالة الاستمرار في احتكار وادعاء الانفراد بالتمثيل، بينما قوى رئيسية ما تزال خارج مؤسسات الوطنية الجامعة، سيما في ظل ارتفاع منحنى تراجع التأييد لهما في الشارع الفلسطيني، والأهم في ظل تفكك الحركة الوطنية وتغييب المنظمة لدورها في الدفاع عن المصالح العليا للشعب الفلسطيني وقيادتها للكفاح الوطني في مواجهة مشاريع الاحتلال لتصفية قضية شعبنا .
هذه الحقائق بمجملها، وبما تعنيه من استمرار الانقسام هي المحرك الأساسي لأطماع الحكومات الاسرائيلية لتصفية المشروع الوطني، وتسارع وتائر الضم للضفة الغربية على يد حكومة سموتريتش - بن جفير برئاسة نتانياهو .،وهي أيضاً الركيزة الأساسية لاحياء توجهات حماس للسيطرة على التمثيل، وما يرافقها من خطط الانفصال بغزة، وربما انتظار فرصة لمد سلطتها لكانتونات الضفة، والتي بات كلاهما أي انفصال غزة وترسيخ "كانتونات ضفاوية للمدن الكبرى" تشكل اللعبة الوحيدة على طاولة البحث الاستراتيجي لحكومة الاحتلال، باعتبارها تشكل الضربة القاضية للمشروع الوطني التحرري، وهي تمسك بخيوط ترسية عطاءات مثل هذه المشاريع لمن يلبي شروط الطاعة ويفوز بمزادها الأمني.
في هذا السياق يمكن النظر لحوارات حماس ومحاولات احتواء الجهاد في القاهرة.فالبحث في شروط ما يسمى بالهدنة طويلة الأمد، والتي تتوج من وجهة نظر اسرائيلية عملية تحوّل " مقاومة حماس" إلى معول لضرب كيانية المؤسسات التمثيلية، وتصفية إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع المحتلين منذ الخامس من حزيران 1967. وطالما الأمر كذلك، فإن كل ما يقال عن نتائج لزيارة الرئيس أبو مازن للصين حول مبادرة لاحياء عملية السلام من خلال مؤتمر دولي، فإن استراتيجية عمل السلطة والمنظمة لن تتجاوز استمرار اللهاث وراء سراب تسوية سياسية لن تأتي، طالما السائد هو الانقسام وخطر الانفصال وتفكك عناصر القوة الفلسطينية.
صحيح أن قطاع غزة بحاجة فورية ومنذ سنوات لخطة انعاش اقتصادي تعالج آثار الحصار الاسرائيلي المدمر على حياة شعبنا في القطاع. ولكن هنا تبرز مجموعة من الأسئلة، أولها حتى لو وافقت اسرائيل على كل شروط حماس الاقتصادية، فهل ذلك سيكون كافياً لمعالجة الآثار المدمرة للحصار والحروب التي شنتها اسرائيل على القطاع ؟ الجواب على هذا السؤال قطعاً بالنفي، سيما وأن أن التجربة ذاتها تقول أن مفتاح تطبيق هذه الشروط سيظل بيد اسرائيل، وهي قادرة على اغلاق الباب في أية لحظة، بل، وأن تبقيه أداة ابتزاز مفتوحة لتحقيق كامل مشروعها التصفوي. أما السؤال الآخر فهو :،هل يستطيع من يدير ظهره للقطاع أن يتعامل مع هذا التحدي في وقت يمتنع فيه عن اطلاق أي مبادرة أو الاستجابة لصوت العقل وللنداءات والمبادرات التي تدعوه لعطاء الأولوية لاستعادة الوحدة، بما يحشر توجهات حماس واحتواء مخاطرها . ثم لماذا يتهرب الطرفان من الاقدام على الممكن والمتوفر فيما يضع معالجة أزماتنا في أيدينا من خلال ترتيبات انتقالية تصون وحدة شعبنا وانجازاته، وتضع المعالجات الاقتصادية والادارية في يد حكومة وحدة انتقالية لتضميد جراحات الناس وعذاباتها في اطار وطني يحترم مواطنة وانسانية الناس وحقوقهم، ويدعم قدرتهم على الصمود تمهيداً لاجراء انتخابات عامة شاملة. من يريد انهاء الاحتلال واقامة دولة مستقلة وانتزاع حق تقرير المصير، فممره الاجباري الوحيد هو صون وحدة الكيانية الوطنية، وليس الانزلاق نحو كانتونات فئوية انفصالية وامتيازات المتصارعين على الوراثة .
إن معالجة معاناة شعبنا في القطاع، واستنهاض مقاومته المشروعة ضد الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس المحتلة يمر من طريق واحدة وهي استعادة الوحدة و إعادة الأمل لشعبنا . الوحدة ذاتها هي التي تغلق باب الأطماع الاسرائيلية في الاستفراد بشعبنا وقضيته، وتفتح باب طريق الحرير الذي يُمكن أن تلعبه الصين وغيرها من قوى النظام الدولي قيد التشكل. وإلا، كما دفعنا ثمن النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية بنكبة عام 48، فإن تخاذل الأطراف المهيمنة على المشهد الانقسامي لجهة استخلاص عِبَر ودروس التاريخ سيكون نكبة جديدة، فهل سيسمح شعبنا بتمريرها مرة أخرى ؟