في ذكرى وقوع الانقسام: إحياء المشروع الوطني هو الحل
مرت منذ أيام الذكرى السادسة عشرة لوقوع "الانقلاب/ الحسم"، وما أدى إليه ذلك من انقسام استمر وتعمق ويهدد بالتحول إلى انفصال، ومرت الذكرى مرور الكرام من دون أن يتذكرها أحد بشكل جدي، مع أن غالبية الشعب الفلسطيني (حوالي 80%)، كما تشير الاستطلاعات تريد إنهاء الانقسام، إلا أن معظم هؤلاء (حوالي 70%) لا يعتقدون أن الوحدة ستتحقق خلال السنوات القادمة على الأقل.
لماذا لم تنجح عشرات المحاولات والمبادرات الرامية إلى إنهاء الانقسام؟
للإجابة عن هذا السؤال، نجد إجابات مختلفة:
هناك من يرى أن الانقسام صناعة خارجية وليس بإمكان الفلسطينيين إنهاؤه، ومنها أن الانقسام نعمة، فالوحدة تعني خضوعًا واحتواء لخط المقاومة لصالح خط التفريط والتسوية، فوطنية الوحدة أهم من الوحدة بلا وطنية، بل من الضرورة أن تكون الوحدة وطنية وإلا نحن في غنى عنها.
وهناك من يرى أن الانقسام ميز الحالة الفلسطينية منذ نشوء القضية الفلسطينية، وهذا رأي لا يميز أصحابه بين الخلافات التي كانت وستظل دائمًا موجودة في ظل قيادة شرعية وقوية ومعترف بها وبين الانقسام المؤسسي الأفقي والعمودي، ووجود قيادتين تفتقر كل منهما إلى الشرعية.
وهناك من يرى أن الفصل الجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة؛ حيث تفصل بينهما إسرائيل، يجعل الوحدة مستحيلة، وكذلك من الصحيح أن وجود قوتين فلسطينيتين مهيمنتين قويتين وعدم بلورة تيار ثالث يكسر الاستقطاب الثاني، ويحقق التوازن المطلوب بين المصلحة الوطنية والمبادئ من جهة، والمصالح الفردية والفئوية من جهة ثانية، ويراعي موازين القوى ويعمل على تغييرها وفق المتاح في كل مرحلة من جهة ثالثة، يجعل من الصعب جدًا، إن لم يكن مستحيلًا، إنهاء الانقسام.
نبدأ بالقول إن تاريخ البشرية كله هو صناعة للمستحيلات، وإذا كان إنهاء الانقسام مستحيلًا، فهزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني الذي يسيطر على فلسطين، ويستخدم الاحتلال والإحلال والفصل والتطهير العنصري والتهويد والتهجير، أكثر استحالة، مع أنها تبدو اليوم (هزيمة الاحتلال والمشروع الصهيوني) أقرب إلى التحقيق من أي وقت مضى، ليس تحقيقًا لنبوءات غيبية، وإنما لأسباب واقعية تتعلق بعوامل داخلية وخارجية تتفاعل وتهيمن على المشروع الصهيوني، فإذا كان الانتصار على المشروع الصهيوني بعد 10 أو 20 سنة، أو في العيد المئوي لميلاد إسرائيل، أو حتى بعد ذلك، ممكنًا، فكيف إنجاز الوحدة مستحيل! فمن دون الوحدة لا يمكن تحقيق الانتصار.
ويشار إلى أن مركز مسارات أصدر ورقة سياساتية بعنوان "نحو مقاربة فاعلة لإنهاء الانقسام الفلسطيني"، تركز على إجراء مراجعة نقدية مقارنة للجهود السابقة لإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية، وأبرز المقاربات والمبادرات التي جرى اقتراحها من مختلف الأطراف، محليًا وإقليميًا ودوليًا، من دون أن تتكلل بالنجاح؛ بهدف استخلاص الدروس التي تساعد على عدم تكرار الفشل من خلال طرح مقاربة تعتمد على بدائل سياساتية لإنهاء الانقسام مع إجراءات وآليات تنفيذ واقعية.
اليأس ليس برهان على أي شيء والاستسلام ليس حلًا
إلى الذين يقولون إن الوحدة مستحيلة، وأن المستعمرات الاستيطانية أمر غير قابل للتراجع عنه، وأن التغيير الجوهري في بنية النظام السياسي الفلسطيني لا يمكن أن يحدث، فهم يدعون إلى شيء واحد وهو الاستسلام، فليس الخيار بين الاستسلام الكامل وخيار من لا حول له ولا قوة، أو الانتصار الكامل والرهان على الغيب والآخرين، بل لا بد من البحث عن خيار ثالث بين الخيارين المذكورين، خيار يراهن أولًا وأساسًا على الذات، وبعد ذلك على الأشقاء و الأصدقاء والحلفاء ... خيار يسعى إلى تحقيق ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة، ويضع أهدافًا مباشرة ومتوسطة من دون التخلي عن الحقوق والأهداف والأحلام الكبيرة، ويرفض في الوقت نفسه إما كل شيء أو لا شيء، أو شيء أفضل من لا شيء.
لقد توحد الشعب الفلسطيني في مرحلة النهوض الوطني والقومي والأممي في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، على الرغم من أن القسم الأكبر من فلسطين قامت عليه إسرائيل، والضفة الغربية ضمت إلى الأردن، وقطاع غزة كان تحت الوصاية المصرية، وكانت القضية الفلسطينية حينها إنسانية وقضية لاجئين، والشعب محبط بلا هوية أو كيان. لكن، عندما طرح المشروع الوطني، استطاع توحيد الشعب، وبلورة هويته الوطنية، ولم يمنع ذلك عدم وجود تواصل جغرافي، بل حسم الشعب خياره على الرغم من كل التحديات والمخاطر.
ولكن، بدأت بعدها مرحلة الهبوط وخسارة المكتسبات والتنازل شيئًا فشيئًا عن المشروع الوطني الجامع والموحد، وتقسيم الشعب والأرض والمراحل، وأصبح المشروع الوطني من مشروع التحرير والعودة وإقامة الدولة الديمقراطية على كل فلسطين، إلى مشروع يهبط حده الأدنى باستمرار من دون توقف، من التحرير والعودة، إلى تقرير المصير والعودة والاستقلال الوطني لدولة فلسطين على حدود 1967 التي تتحقق بالمقاومة، وإقامة السلطة الوطنية المقاتلة على أي شبر يتم تحريره، إلى دولة تتحقق بالمفاوضات والتنازلات وإثبات الجدارة، وهذا وضع الفيتو على قيامها في أيدي حكومات الاحتلال، ثم تحوّل المشروع الوطني إلى سلطتين متنازعتين تحت الاحتلال تحكمهما معادلة متشابهة على الرغم من الخلافات بين خياري الاستسلام الكامل والانتصار الكامل، اللذين يقودان - بغض النظر عن النوايا والاختلافات الكبيرة والصغيرة - إلى النتيجة نفسها.
أما الآن، فأصبح الهدف بقاء السلطة هنا وهناك، مع تسهيلات معيشية مقابل أمن وتهدئة. فالسلطة في الضفة تسعى إلى البقاء والانتظار حتى يتم استئناف المفاوضات لتحقيق "حل الدولتين"، بينما تسعى السلطة في القطاع إلى البقاء حتى تحقيق وعد الآخرة، من خلال لعنه الأجيال التي تفيد بأن إسرائيل ستزول عندما يبلغ عمرها ثمانين عامًا، أو من خلال حرب تحرير يشنها محور المقاومة في الوقت المناسب، وإلى أن تبدأ المفاوضات أو معركة التحرير يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
في ضوء ما سبق، فإن الانقسام نتيجة طبيعية للتخلي عن المشروع الوطني، وتحقيق الوحدة مرهون بإعادة تعريفه وإحيائه وتبنيه في ضوء المتغيرات والمستجدات والحقائق الماثلة على الأرض، والدروس المستفادة، التي أبرزها أن الحركة الوطنية الفلسطينية شاخت وترهلت وتقادمت وفسدت، وهي بحاجة إلى إصلاح وتجديد وتغيير من تلقاء نفسها، أو بحاجة إلى تغيير يُفرض عليها من الخارج عبر تشكيل حراكات وقوى جديدة في مستوى المرحلة.
وكما نرى، فإنه بدلًا من التصدي للتحديات والمخاطر القائمة، وتوظيف الفرص المتاحة، يجري التقاتل على الفتات والسلطة والدولة العتيدة والحصص والتمثيل والقيادة، بينما القضية في خطر، والأرض تضيع وتهود، والشعب - على الرغم من صموده الأسطوري ومقاومته الباسلة - معرض للعدوان بكل أشكاله، بغرض كسر إرادته على الصمود والمقاومة، وفرض الاستسلام عليه، أو شن حرب طاحنة مفتوحة تستهدف حسم الصراع بأسرع وقت ممكن.
تأسيسًا على ما تقدم، فإن بداية الطريق لإنهاء الانقسام تتحقق بإعطاء الأولوية لإحياء المشروع الوطني وتعريفه، فمن دون مشروع وطني يوحد الشعب ويبعث الأمل لا يمكن إنهاء الانقسام، ولا أن يفجر الشعب مقاومة مستمرة تحقق أهدافها وانتفاضة شعبية عارمة قادرة على تحقيق الانتصارات المحدودة إلى حين تغيير موازين القوى وإنجاز الانتصارات الحاسمة، وبلا وحدة لا يمكن استمرار القضية حية، وبقاء الشعب على أرض وطنه، وهذا أهم إنجاز حققه الشعب الفلسطيني، ويجب المحافظة عليه.
إن الوحدة ضرورة وطنية وليست مجرد خيار من الخيارات، ولا يمكن تحقيقها بضربة واحدة أو فقط من أعلى إلى أسفل، أو اعتمادًا على إرادة القوى القائمة واستجابتها فقط، وإنما يمكن تحقيقها بالوحدة الميدانية، والعمل من أسفل إلى أعلى، على أساس الحاجة الماسة والقواسم المشتركة الكبيرة جدًا بين الفلسطينيين والناجمة أساسًا عن أن المشروع الصهيوني لا يتسع لأي حق من الحقوق الفلسطينية، وأن الرأي الغالب في إسرائيل هو وضع الفلسطيني أمام خيارات ثلاثة لا رابع لها: الهجرة الطوعية أو القسرية، أو الخضوع التام والاستسلام والتعايش مع المشروع الاستعماري، أو مقاومته ومواصلة الموت.
ما زال الشعب صامدًا، ويقاوم، وقضيته حية، ونصفه على أرض فلسطين، وقضيته عادلة ومتفوقة أخلاقيًا، والرأي العام العربي والإسلامي والإنساني يتحرك نحو دعمها المتزايد، بينما تشهد المنطقة والإقليم والعالم تحولات وتغييرات متسارعة، يمكن ألا تكون على حساب القضية الفلسطينية، بل لصالحها، إذا أحسن الفلسطينيون التصرف.
وإذا أردنا المزيد من التفاصيل والجوانب المهمة، يحدد المشروع الوطني الحقوق والأهداف الأساسية، وكيف يمكن تحقيقها، وكذلك أسس الشراكة والتحالف والقيم والمبادئ، وأهمية الاحتكام إلى الشعب واعتماد الديمقراطية التوافقية بين مكونات الشعب، فالمشروع الوطني الفلسطيني بعد 76 عامًا على النكبة غامض ومختلف عليه، بين من لا يزال يتشبث بـ "حل الدولتين"، ومن يقفز إلى حل "الدولة الواحدة"، أو يكتفي بالتمسك بالمقاومة وهدف التحرير وكأن هذا يكفي، وأنها مسألة اختيارات مريحة لفظية فقط، وبين من يقول إن المرحلة ليست مرحلة حلول.
المرحلة ليست مرحلة حلول، ولكن
نعم، هذا صحيح، فالمرحلة مرحلة صمود، والحفاظ على القضية، وعلى تواجد الشعب على أرضه وإحباط المشاريع المعادية، ولكن هذا وحده قول لا معنى له من دون مشروع وطني، ونقطة البدء هي الانطلاق من وحدة القضية والأرض والشعب والرواية التاريخية، وبعد ذلك التعامل مع موازين القوى والخصائص التي تميز التجمعات المختلفة، ووضع أهداف عامة وأهداف لكل تجمع، فلا يمكن اختصار الموقف بأن حل الدولتين مات، وأن المقاومة هي البديل أو لا بديل من حل الدولتين إلا حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة أو الانتقال إلى المطالبة بالحقوق، بينما جاري تطبيق حل الدولة الواحدة الاستعمارية العنصرية، على قدم وساق، باستخدام القوة وفرض الحقائق على الأرض وعبر أنظمة وقوانين خاصة بكل تجمع فلسطيني (القدس، 48، الضفة، القطاع)؛ لتجنب قيام دولة واحدة ثنائية القومية أو دولة لكل مواطنيها، أو ما شابه ذلك وخالفه من حلول.
بعد تحديد الحقوق والأهداف وما يوحد الشعب الفلسطيني، يتم تحديد المهمات والبرامج الخاصة بكل تجمع استنادًا إلى موازين القوى، وما يمكن تحقيقه؛ حيث يكون النضال متعدد الأشكال، وبما يناسب كل تجمع، وتكون نضالات التجمعات المختلفة روافد تصب في نهر واحد يقود إلى انتصارات محدودة متنوعة على طريق تحقيق الانتصار العظيم.
بعد ذلك، أعتقد أن الانقسام حصيلة عوامل داخلية خارجية ذاتية وموضوعية، أهمها الاحتلال الذي مهد الطريق لحدوث الانقسام، ويسعى جاهدًا إلى بقائه وتعميقه وتعميمه للقضاء على القضية الفلسطينية بكل أبعادها، بما فيها إقامة دولة فلسطينية يعارض قيامها الكيان المحتل؛ لأنه يعرف أن قيامها إذا كانت حرة وذات سيادة وعاصمتها القدس هي بداية النهاية للمشروع الصهيوني برمته. لذلك، لا يمكن إقامة مثل هذه الدولة عن طريق المفاوضات وتقديم التنازلات التي تقود إلى الاستسلام والحل الإسرائيلي الذي لا يتسع للدولة التي يريدها الشعب الفلسطيني ولا لأي حق من الحقوق الفلسطينية، وإنما عبر المقاومة وتغيير موازين القوى.
عندما لم تنشغل الفصائل والقيادات بإحياء المشروع الوطني، انشغلت بالمصالح الفئوية والفردية، والاعتراف بالأدوار والحصول على النفوذ والمكاسب والوظائف، ونزلت عن الجبل بينما الحرب مستمرة والصراع لا يزال في ذروته. وعندما تتم بلورة المشروع الوطني سيكون قادرًا على توحيد الشعب الذي سيفرض إرادته على القوى، أما عندما يتم الانشغال بالقضايا الصغيرة والمصالح الفردية فيضيع كل شيء.
نعم، هناك أمل؛ لأن هناك شعبًا حيًا، وهو سيفرض إرادته في النهاية على الجميع، وهذا الأمل يعزز بأن المشروع الصهيوني مسدود الأفق، ومأزوم، وأنه سيقدم على الضم والتهجير، وتغيير مكانة الأقصى، وشن العدوان العسكري بكل أشكاله، وسيحاول من وراء ستار أن يفرض خليفة أو خلفاء للرئيس الحالي، بما يضمن استمرار قيام السلطة بدورها الحالي، وربما أسوأ.
إنّ كل ما سبق (الضم، والتهجير، والتدخل لفرض خليفة أو خلفاء ... إلخ)، على خطورته، يمكن أن يوفر فرصة للنهوض القادم لا محالة، وفي سياق النهوض سيتم بناء الحركة الوطنية مجددًا، وبناء الوحدة الوطنية الديمقراطية التي لا تلغي التعددية والتنافس، وإنما تتم في إطار الوحدة.
وحتى يحدث النهوض نحن بحاجة إلى فكرة وطنية جامعة، وإلى رؤية شاملة، وحلول متكاملة مترابطة، وقيادة واحدة ومؤسسة وكيان وطني يوحد الشعب ويمثله بشكل حقيقي وديمقراطي، فلا يكفي القول إن الانتخابات هي الحل. فالانتخابات غير ممكنة في الظرف الحالي، في ظل الانقسام والاحتلال، ووجود سلطتين، وفي ظل وجود قوى متحكمة لا تريد انتخابات. كما أن الاحتلال وأطرافًا عربية وإقليمية ودولية، لا يريدون الانتخابات، وإذا جرت من دون تغيير في الوضع القائم فلن تكون حرة ونزيهة وتحترم نتائجها.
ولا يمكن أن يكون الحل تشكيل حكومة وحدة وطنية أو وفاق وطني؛ لأن هناك عقبة الالتزامات الدولية الظالمة، وأنها صيغة وحدها لا تقبل بها "حماس"؛ لأنها لا تريد أن تنهي سيطرتها على السلطة من دون أن تحصل على شيء.
وكذلك لا يمكن أن يكون مدخل الحل المنظمة أو تشكيل قيادة انتقالية بالتعيين فقط؛ لأن هذا ترفضه "فتح"؛ كونه يجعل "حماس" شريكًا في المنظمة والقيادة، بينما تحتفظ بسيطرتها على القطاع.
أما حل الرزمة الشاملة الذي يحفظ مصالح الناس وحقوقهم المدنية والوطنية، فهو يحقق مصلحة الوطن، ويحفظ مصالح كل الأطراف، ويمكن أن يحرك الناس لفرضه .
نعم، هذا صعب جدًا، ولكنه على صعوبته أسهل الحلول، وهل هناك شيء عظيم يكون من السهل تحقيقه. إن كلمة مستحيل لا توجد إلا في قاموس الجبناء