الكرام/ أهل بلدتي الفلسطينية "بيت أُمر" ما بالكم تغيرتم..!؟!
"1"
قريتي، بلدة أخوالي "بيت أمر"، الفلسطينية، الجميلة، الوادعة، التي تبدو ولكثافة كساءها الأخضر، بألوانه الزاهية، وكأنها بلدة محفورة في بستان غناء لا حدود له. تلك هي صورة "بيت أمر" في طفولتي و شبابي المبكر، قبل الأحتلال البغيض، حيث كنت أقضي نصف العطلة الصيفية، وعلى مدار سنوات طوال، في ربوعها الخلابة التي لاتنسى.
"2"
كانت نموذجاً للمجتمع المتحاب المتكافل، إذ كان يبدو أبناء "بيت أُمر" و كأنهم جميعاً أبناء لرجل وامرأة. كنت أدخل في أي بيت من بيوتها، وكأنه بيت والدتي، بالرغم من رحيلها المبكر الى الدار الآخرة،كشابة بعمر الورد، يتردد ذكرها الحميد في بيوت "بيت أُمر" حتى تعتقد أنها أبنة للجميع. وهذا مثالاً على الحميمية السائدة آنذاك بين الناس. فكل فرح في البلدة هو فرح للجميع، وكل حزن هو حزن الجميع أيضاً.
كنت أشارك أقراني في كل تلك البيوت، طعامهم وحتى فراشهم دون أن أحس بأي فرق يميزني عنهم، فكلها بيوت أخوالي من كل العشائر والعائلات. تقابلني "الأمريات" المشهورات بجمالهن، وحسن اناقتهن، بالأحضان، فكلهن خالاتي. بل ولا أتردد بأن أذهب مع أي من أخواني ومن كل العشائر نحو عين الماء أو نحو البساتين سواء في موسم تحضير الأرض للزراعة أو في موسم قطاف فاكهة "بيت أمر" المعطرة، التي يتنسم المرء عبيرها، حتى قبل أن تطأ قدماه أرضها المباركة.
بل وأسعد الجلوس مع الرجال في المقهى الوحيد في البلدة، أراقبهم يلعبون طاولة الزهر أو "الهاند" معاً، بمحبة وسعادة وأتسمع إلى أحاديثهم في السياسة عن عبد الناصر و الاشادة بالجيش العربي و ببطولاته في صد الاعتداءات التي لا تتوقف على المناطق الفلسطينية كافة، و بنفس الوقت يتندرون بمحبة على لهجتي "الكركية"، وحين يودون التعريف بي لغريب يقولون هذا "إبننا كركي". وحقيقة لم أكن أميز بينهم من هم أخوالي او خالاتي الأقرب، فقد كانت بيت أُمر بلدة، نموذج للعلاقات الإجتماعية الرائعة، تتسم بدفئ وحب متبادل بين الجميع.
"3"
وطوال سنوات الوعي، فأن ذاكرتي تخلو من أي خلاف عائلي واحد، وكانت الاصطفافات تتم في موعد الانتخابات، للمجلس القروي أو "المخترة"، لكنها اصطفافات تنتهي حال خروج النتائج، فيتم تهنئة الناجح، وتمضي الناس إلى حياتها الاعتيادية معاً، دون أن تؤثر تلك على إيقاع الحياة الهادئة والعلاقات الطيبة التي تربط الجميع بعضهم ببعض.
"4"
فأين هي "بيت أُمر" اليوم من هذه اللوحة الجميلة الزاهية، من هذا المجتمع المترابط المتواد؟!
"بيت أُمر" اليوم يسكنها الحقد والكراهية والقتل غير المبرر!! هي كذلك اليوم، رغم ذلك العدو المتربص، الذي يقتل الشباب ويسجنهم لسنوات طويلة، دون تميز بينهم، هذا من هذه العشيرة أو تلك.
صحيح أن للاحتلال دوره في تردي علاقات المودة ونشر الكراهية، وأجزم أن هناك دور للمستعربين الصهاينة، بإشاعة وترويج الروح العدائية بين أهالي البلدة الواحدة.
إن على عُقال "بيت أمر" و على شبابها وأمهاتها مسؤولية، بأن ننتهي من الاستثناء و نعود إلى الأصل، إلى علاقات الود و المصاهرة و القربى، إلى عهد الوئام الاجتماعي الذي كان هو سائد في العهد القريب. علماً بأن "تلك الحالة الاستثنائية سيئة الذكر ليست مقتصرة على بيت أمر، بل هي ظاهرة الأن في كل الضفة الغربية وبالذات في محافظة الخليل وفي الداخل الفلسطيني.
إن تلك مسألة ذات أولوية، تفرض على العقل الفلسطيني أن يتدخل عبر معالجات رسمية من قبل السلطة، بحيث يتم تغليظ القوانين الرادعة، وكذلك الحاجة إلى معالجات شعبية من خلال ميثاق شرف ملزم للجميع، لتقف تلك المعاناة وأن يتم حشد الجهود لمقاومة الاحتلال البغيض. هذا مع التنويه بالدور البطولي لشعبنا في الداخل، و منه قريتنا الجميلة "بيت أمر"، البطلة التي لم تتوقف عن مقاومة الاحتلال وتقديم الشهداء.
وبعد؛ يجب تغليب العقل، ويجب وقف هدر أرواح الناس بلا سبب والإضرار بممتلكاتهم التي تتعرض للحرق والتخريب، وكل ذلك بلا سبب وجيه إنما هو سبب وجيه. دعونا أن نغادر مربع داحس والغبراء وقصة الزير سالم، و الثأرية الغريزية، التي لا تليق بمجتمع متمدن مثل المجتمع الفلسطيني، و لا تليق بشعب يقاتل ويقاوم أعتى أشكال الاستعمار الذي مر على تاريخ البشرية.
تحية الى فلسطين الغالية، وإلى بلدتي الجميلة وأهلها "بيت أمر".
والله، ومصلحة فلسطين، وأهلها، من وراء القصد.