المبني للمجهول في الوضع الإسرائيلي!
بقدرِ ما يتعلّق الأمر بقراءة الاتّجاه، وليس التطوّرات اليومية، فإنّ المبني للمعلوم يُمكن تلخيصه على النحو الآتي:
فشلت كلّ «المحاولات» من جانب «المعارضة»، ومن جانب الرئيس الإسرائيلي إسحق هيرتسوغ، ومن قبل الإدارة الأميركية، ومن قبل عدّة أطراف أخرى، داخلية، وخارجية في ثني تحالف «اليمين» الحاكم في إسرائيل عن التراجع عن «إقرار» قانون «المعقولية»، ولم يُمكّن «اليمين الفاشي» بنيامين نتنياهو، ولا بعض أعضاء «الليكود» من إضافة ولا حتّى فاصلة على نصّ القانون، في انعكاسٍ مفضوح لمدى ارتهان «الليكود» ورئيسه بالكامل لـ «الصهيونية الدينية» ولباقي مُكوّنات الحكومة، وفي وضع نتنياهو أمام خيارٍ وحيد، وهو أن يختار فوراً، ومن دون مواربة أو مراوغة الموافقة على القانون، كما هو من دون أيّ تعديلات أو إضافات، أو «استدراكات»، أو حذوفات.. أو سقوط الحكومة، وفوراً من دون مراوغة أو مواربة، (هنا، أيضاً)، وبذلك يبدأ فعليّاً عداد انتهاء الحياة السياسية لنتنياهو بالدوران السّريع.
والمعلوم الآن أنّ نتنياهو قد رضخ، ورفع يديه الاثنتين، وأسلم مصيره لـ «اليمين الفاشي»، وبات من هذه الزاوية تحديداً لا يملك من أمره شيئاً جدّياً واحداً يمكن الاعتداد به، أمام نفسه، وأمام «الليكود»، وأمام الإدارة الأميركية، وأمام العالم كلّه، والأهمّ أمام المجتمع الإسرائيلي وأمام «المجمع الكهناتي في إسرائيل».
أمّا المعلوم الثاني فهو أنّ هذا «المجمع الكهناتي» لم يعد مجرّد شريك فاعل في الحكم، كما كان يرى البعض، وخصوصاً الإدارة الأميركية التي كانت ترى، وكان يحدوها الأمل بأنّ التخلُّص من وزراء «المجمع» كفيل بإصلاح الحال، والعودة بـ «إسرائيل» التي تودّ الولايات المتحدة أن تكون عليها.. (لم يعد مجرّد شريك فاعل في الحكم)، وإنّما الحاكم الفعلي في إسرائيل.
والمعلوم الثالث هو أن إسرائيل بإقرارها لقانون «المعقولية» لم تدخل في مرحلة «الكهناتية» السياسية فقط، ولم يعد المحفل الجديد، هو الحاكم الفعلي الجديد، وإنّما ــ وهذا هو الأخطر والأهمّ ــ لم تعد قادرة على التخلُّص من سطوة هذا «المحفل» بالوسائل والأدوات الديمقراطية المعهودة في منظومات تداول السلطة في الدولة الليبرالية «الديمقراطية، وبات مثل هذا «التخلُّص» ينطوي على أخطار وتبعات، سياسية واقتصادية واجتماعية، توازي وتساوي، إن لم تزد وتتفوق على بقاء إسرائيل تحت رحمة هذا «المجمع الكهناتي» القادم من طبيعة المشروع الصهيوني في نسخته الأكثر سفوراً في رجعيّته وغيبيّته وقرو أوسطيّته المفضوحة، وكلّ ما سيتبع ذلك من إجرام وقتل وعنصرية وويلات وأهوال على شعبنا أوّلاً، وعلى الإقليم ثانياً، وعلى العالم كلّه ثالثاً.
أمّا المبني للمجهول في الوضع الإسرائيلي، حتى وإن كانت بعض المؤشّرات القادمة من «المبني للمعلوم» تساعد المتابع والمراقب قليلاً هنا، وأقلّ هناك، فإنّ استعراض «المجهول» يمكن أن نلخّصه بالآتي:
تُرى إلى أيّ درجةٍ يُمكن أن تستمرّ الاحتجاجات، وهل ستكون «محطّة» إقرار القانون نقطة تحوُّل، وانعطافة كبيرة نحو تجذّر وتعمُّق هذه الاحتجاجات، ونحو محتواها من حيث الأدوات والأساليب باتجاه الإضرابات والعصيانات، ونحو دخول قطاعات جديدة في إطارها.. أم أن هذه المحطة بالذات ستكون «سبباً» في تراجع هذه الاحتجاجات، نظراً لأنّ قطاعات منها ستشعر باليأس والإحباط، وستختار «الاستنكاف»، وربما الهجرة أو «انتظار» المجهول حتى تقرر اختياراتها بصورةٍ حاسمة؟!
من واقع أنّ «الحلّ» هو أصلاً كان مستحيلاً، وأنّ الأمر برمّته ليس سوى البحث عن مخارج مؤقّتة ــ كما أوضحنا ذلك جليّاً في المقال السابق ــ فالسؤال نحو المبني للمجهول في الوضع الإسرائيلي بات، هو فيما إذا تحوّل «المخرج» المطلوب من مخرجٍ مؤقّت وانتقالي، أم فقط لتفادي الحرب الأهلية الطّاحنة؟
الحقيقة أنّ تحوُّل المخرج إلى هذا الإطار والحيّز والدور هو بحدّ ذاته انعكاس ليس فقط لعُمق الأزمة، وإنما هو التعبير المكثّف لطبيعتها، واستحالة حلّها، وصعوبة إيجاد مخارج مؤقّتة منها، وتزايد أهوال وأخطار هذه المخارج نفسها.
صحيح أنّ مسألة «التفكُّك» قد تنطوي على مُبالغات كبيرة، وصحيح أنّ «استسهال» استخدام هذا التعبير يُلحق ضرراً بموضوعية التقييم والقراءة، وصحيح أنّ خصوصيّة النظرة للجيش في المجتمع الإسرائيلي تُلقي بثقلها الكبير في «الوعي» الإسرائيلي، إلّا أنّ بعض المؤشّرات بالمقابل باتت تفرض نفسها على المراقب والمتابع مهما تحلّى بالحذر والتروّي.
بل إنّه ولهذا السبب بالذات فإنّ «الحراك» من بعض قوات الاحتياط في الجيش، وبعض أذرع الأمن يُلقي بظلاله على الاحتجاجات لجهة أن التراجع عنها سيعني أن «الكهناتية» تتمتّع بسطوةٍ كبيرة في الجيش، وفي أذرعة الأمن، ما يؤدّي بالقائمين على الحراك إلى اللجوء إلى الاحتجاجات «كحلٍّ» وحيد لديهم للتأثير على القوات النظامية، و»لإجبارهم» على التعبير عن موقفهم ضدّ هذه السطوة، أو لأنهم باتوا على قناعةٍ بأن القانون الجديد سينهي عملياً صلاحيات «العليا»، والتي هي المؤسسة الوحيدة القادرة على توفير «الحصانة» أمام مؤسّسات القانون الدولي، في حال أن تمّت إدانة قيادات الجيش، وقيادات الأذرع الأمنية من قبل هذه المؤسسات، وقد لفت الكاتب الفلسطيني أنطوان شلحت الانتباه لهذا الأمر في مقاله «لماذا يثور الأمنيون الإسرائيليون ضد إضعاف القضاء؟».. كما لفت جدعون ليفي، أيضاً، «الاحتجاج الإسرائيلي على الانقلاب القضائي له خصائص عسكرية» إلى التناقض الصّارخ في دعم قطاعات من هذا الجيش، ومن بعض أذرعة الأمن للاحتجاجات في حين أنّ الجيش والأمن يُشرِفان بصورةٍ مباشرة على الاحتلال والقتل والإجرام.
أقصد أنّ «تفكُّك» الجيش، وتصدُّعه ليس عملية مستحيلة، لأنّ الاعتبار الأساس في الموقف من الاحتجاجات ليس له علاقة مباشرة بحالة الأمن في إسرائيل، وإنما باعتبارات خاصّة لهذه القطاعات داخل الجيش، وداخل أذرع ومؤسسات الأمن الإسرائيلية.
هل يعني ذلك أنّ المجهول على هذا الصعيد بالذات، هو أهمّ وأكبر وأخطر أنواع هذا المجهول في إسرائيل بعد دخولها إلى المرحلة الجديدة؟
مجهول آخر يتمثّل بالمدى الذي ستشهده إسرائيل من تعمُّق الاحتجاجات نحو محتوى اقتصادي واجتماعي جديد، وخصوصاً إذا ما بدأت تطفو على السطح مظاهر الأزمة الاقتصادية المرتقبة.
هناك مؤشّرات متزايدة على لحظةٍ حاسمة قد تطرأ على الواقع الإسرائيلي، وهي دخول «الهستدروت» على خطّ الاحتجاجات، ودخول قطاعات كبيرة وواسعة جماهيرية وجديدة على هذا الخط ما سيشكّل انعطافة جديدة في مسار الصراع الداخلي في إسرائيل، وهي لحظة ــ كما أرى ــ قد تكون اللحظة التي تسبق الفوضى الكبيرة، واللحظة التي تنطوي على المجهول الأكبر في الواقع الإسرائيلي الجديد.
المجهول والمعلوم في الواقع الإسرائيلي لا يجد حتى اللحظة أيّ معلومٍ حقيقي في الواقع الفلسطيني، وهو لا يجد بالمطلق أيّ معلومٍ حقيقي في الواقع الإقليمي، وكلّ ما نعلمه ونعرفه عن «معلوم» الواقع الدولي تمت الإطاحة به وإفشاله، ولا أحد يعلم حتى الآن، كيف ستتصرّف الولايات المتحدة إزاء هذه الأزمة الطاحنة التي تحوّلت إلى كابوسٍ حقيقي.