"نَحن ومُثلث واشنطن - بروكسل - تل أبيب ."
في الوقت الذي لا يُخفي فيه نتنياهو وشركاؤه في ائتلاف حكومة الأحتلال أهداف الأنقلاب التي ما زالوا يتقدمون بها بحزم منذ فوزهم في انتخابات نوفمبر الماضي ، والتي تتلخص في تفكيك إسرائيل وإعادة تجميعها كدولة استعمارية دينية متطرفة ستؤسِس في جميع أنحاء "أرض إسرائيل الكبرى او مملكة اليهود " نظام الفوقية اليهودية القائم على التمييز العنصري واستدامة اضطهاد شعبنا واحتلال أرضنا من خلال تسريع "مشروع الحسم السريع والمبكر" الذي تطرقتُ لمخاطره وتداعياته بمقالات سابقة .
حيث تنص الخطوط العريضة لحكومة الأحتلال الفاشية الحالية والاتفاقيات الائتلافية بين أحزابها على تعزيز تطبيق السيادة في ما يسمونه "يهودا والسامرة" بموجب "الحق الطبيعي لشعب إسرائيل في أرض إسرائيل" وفق زعمهم ، مستفيدين من واقع الصمت بل والتأييد الغربي وسياسات كافة حكوماتهم السابقة التي أُسست وفق الإجماع الصهيوني ولم تأتي ببرنامج يناقض جوهر رؤيتهم أو ببرنامج سلام يُنهي احتلالها ويقبل بمبداء حل الدولتين كخيار دولي وفق القانون الدولي والقرارات الأممية ذات الصله ويحقق لشعبنا حقه بتقرير المصير بعد ٧٥ عاما من جريمة النكبة التي ارتكبتها الحركة الصهيونية بمساندة قوى الاستعمار العالمي والتي مثلت بداية مشروعهم الأحلالي الأستيطاني المذكور في كل فلسطين التاريخية .
مؤخرا وقبل أيام فقط قال نتنياهو لدى زيارته لموقع جبل الشيخ ومشاهدة مرتفعات الجولان المحتلة "نحن هنا ندوس على أرض ستبقى إلى الأبد تحت السيادة الإسرائيلية اليهودية " ، تصريحات تتطابق مع ما يكرره عند كل زيارة له لإحدى المستوطنات اليهودية كما للقدس المحتلة وكافة المناطق المصنفة "ج" وتصريحه الأخير المتعلق بالدولة الفلسطينية .
وفي واشنطن فان الحسابات الأمريكية أصبحت اليوم اكثر وضوحا وفق محددات العلاقات الاستراتيجية مع دولة الأحتلال منذ البدء وسعيها المستمر لأشاعة سراب حلولها المنقوصة دون الحق العادل في تقرير المصير لشعبنا وحريته واستقلاله الوطني . فبايدن الذي اتى الى هنا خالي الوفاض وكرر سياسات حماية اسرائيل بالهيئات الأممية واستمر بتقديم كل المساعدات لها الأمر الذي أدى حتى اليوم لاستمرار الاحتلال وتوسيع الاستيطان وضم مناطق على رأسها القدس وفق ممارسة استمرار قرار سلفه باعتبارها "عاصمة إسرائيل الموحدة" . بايدن وادارته لم يتخلوا عن مضمون صفقة القرن التي اطلقها ترامب ولربما تحت مسميات جديدة الان ، فالسياسات الأمريكية التي ترسمها الدولة العميقة هنالك بما فيها مجمع الصناعات العسكرية المؤثر الاكبر على مواقف اعضاء الكونغرس تتسم بالاستمرارية الاستراتيجية لمصالح الولايات المتحدة ولا يحددها الرؤساء .
فبايدن اليوم الذي يسعى وادارته الى محاولاتهم لوقف التمدد الصيني بالشرق العربي وافريقيا وكذلك النفوذ الروسي ومحاولة اضعافه وحصاره من خلال الحرب الاطلسية ضد روسيا في اوكرانيا في مسعى للابقاء على النظام الدولي احادي القطب ، تسعى الى تمرير اتفاق مع السعودية في الكونغرس الذي يقف باغلبيته داعما لدولة الأحتلال دون دعم الجمهوريين ، وهؤلاء قد يُقنعهم نتنياهو ، ومن هذا الجانب تحديدا أصبح التطبيع مُركباً هاما في الصفقة التي يتم الحديث عنها اليوم امريكيا واسرائليا . كما أن التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي متحفظ لأسباب تتعلق باوضاع داخلية للدول المعنية ، ويعتقد بايدن بأنه بالإمكان إقناعهم بتغيير موقفهم إذا شملت الصفقة وقف الاستيطان وتجميد التغييرات على جهاز القضاء في إسرائيل" الانقلاب القضائي" ، كما تطلب الإدارة الأمريكية من نتنياهو . لكن هذا الحديث يتم في وقت تعلن به السعودية تمسكها بمبادرة السلام العربية وانهاء الاحتلال كطريق لاقامة الدولة الفلسطينية ، الامر الذي نأمل بالتمسك به ، كما وان هذا الاتفاق الذي يكثر حديث نتنياهو عنه ، يعيد السعودية إلى ما قبل اعتماد سياساتها الخارجية والنفطية وعلاقاتها الدولية الجديدة خاصة مع الصين وروسيا ، الامر الذي يبدو بالابتعاد أو التراجع عن تلك المتغيرات مسالة غير ذات جدوى ومنفعة للسعودية بالوقت الحاضر وفق ما تعلنه من رؤية وما ترغب به من دور اقليمي ، بالاضافة الى استباق الحديث الإسرائيلي لذلك بعدم ادخال الشأن الفلسطيني كشرط سعودي ، علما بانه حتى لو وافق نتنياهو عن اجزاء من تلك الشروط بالمفهوم الاقتصادي فانه سيخسر ائتلافه الحكومي الامر الذي لا يستطيع تحمل نتائجه . كل هذا يضاف طبعا، إلى صهيونية بايدن ورغبته في اختراق والالتفاف على الاتفاق الايراني السعودي وتسجيل إنجاز له قبل الانتخابات القادمة وفي إنقاذ إسرائيل من نفسها ، دون ان يحقق سلام حقيقي يقوم على تلبية الحقوق التاريخية السياسية لشعبنا وبالمقدمة منها إقامة الدولة على حدود ٦٧ بما فيها القدس العاصمة ، باعتبار ذلك جزء من الوطن التاريخي ، كما وحل مشكلة اللاجئين وفق القرار الأممي ١٩٤ والافراج عن كافة الأسرى والجثامين .
اما في بروكسل فرغم ان المجتمع الدولي انتصر لفلسطين بقرارات اتخذتها الجمعية العامة للأمم المتحدة باغلبية الاصوات ، الا اننا لاحظنا متغيرات واضحة مقلقة بمنحى التصويت باوساط عدد من دول الاتحاد الاوروبي مؤخرا ، ناتج عن تراجع قوة احزاب اليسار الأوروبي وصعود اليمين السياسي بمنطلقات فكرية جديدة تختلف عن تلك الأسس الفكرية لهم في الماضي وصعود اليمين الشعبوي المتطرف الى الحكم بالعديد من الدول خاصة في دول أوروبا الشرقية من الاتحاد و تاثيرات الإدارة الأمريكية والقوى الصهيونية فيها وطبيعة سياسة الهيمنة والاستقواء التي تمارسها في أوروبا ، والدور الذي لعبته وما زالت من خلال اتساع تأثير الحركة المسيحية الصهيونية ودور منظمات ما يسمى باليمين الديني الانجيلي أو مسمى المسيحية الأوروبية التي تتفق مع الرواية الدينية اليهودية المزعومة وتشكل احدى أسس الرواية التاريخية الصهيونية التي أصبحت تحظى بانتشار و تأييد قي عدد من الأوساط المؤثرة طبعا بالولايات المتحدة و عدد من الدول الأوروبية بالإضافة إلى موضوع استغلال فزاعة الهلوكست التي أصبحت تُرعب بعض الأوروبيين بعد محاولات نجاح ربطها مع ما يسمى بمعاداة السامية وقيام بعض الدول الأوروبية باعتماد تشريعها والقادم اسؤا بالخصوص خاصة المتعلق منها بالمبادئ التطبيقية للوثيقة ، في حين لم يستطيع الاتحاد الأوروبي حتى الآن مغادرة تبعيته للسياسة الخارجية الأمريكية .
وهذا احد اهم الاسباب لما ينعكس الان باتباع سياسات أوروبية جديدة ، رغم عدم صراحة إعلانها، تساند دولة الاحتلال لعدد من الدول من بينها ١٢ دوله من أصل ٢٧ هم اعضاء الاتحاد الأوروبي ، سوى من جزء من المساعدات المالية لنا التي اصبحت اليوم ترتبط بشروط ، والبيانات اللفظية التي تصدر عن الاتحاد دون صفة القرارات ، رغم قرارات البرلمان الأوروبي والتي بجزء منها أصبحت ترتبط بشروط ايضا تتعلق باوضاعنا الداخلية كاجراء الانتخابات والشفافية والحوكمة وما إلى ذلك ، رغم مساندتها بالمجمل قضية شعبنا وحقوقه بفضل وجود قوة لاحزاب اليسار في ذلك البرلمان . إضافة إلى قرار البرلمان البرتغالي مؤخرا ومواقف البرلمانات الأوروبية ما بين ٢٠١٤ و ٢٠١٦ بخصوص توصياتها بضرورة اعتراف حكوماتها بالدولة المستقلة ذات السيادة بفعل تأثير احزاب اليسار فيها ، الا ان هذا الأمر الذي لم يتحقق حتى الآن نظرا لوجود اليمين بالسلطة ، سوى بالسويد في فترة سابقة وبوجود اليسار بالحكم فيها ، علما بان اليمين الحاكم فيها الان يعمل على التراجع عنه .
كما وان رئيسة المفوضية الأوروبية وفي رسالة لها عبر حسابها على "تويتر" لتهنئة دولة الاحتلال الإسرائيلي، في ذكرى مرور 75 عاماً على قيامها بعد تدمير وتهجير مئات الآلاف من ابناء الشعب الفلسطيني ، إن "إسرائيل هي الديمقراطية النابضة بالحياة في قلب الشرق الأوسط" ، كما ومواقف رسمية اخرى صدرت عن بوريل وغيره تقوم على أساس مساواة الضحية بالجلاد وحق إسرائيل المزعوم بالدفاع عن نفسها ، والاحتفال بذكرى "استقلال إسرائيل " مع سفرائها بدول أوروبية عديدة قبل أشهر إضافة إلى اتفاقيات في مجالات مختلفة يتم توقيعها خاصة قي دول شرق المتوسط ، وبما يشمل أيضا تفعيل المجلس الأوروبي الإسرائيلي المشترك دون الالتفات إلى جرائم الاحتلال ونظام الابرتهايد فيها .
أمام ذلك فان وجهة نظر نتنياهو ، للضم الذي يسميه عدد من الصحافيين بالعكسي ، اي ضم إسرائيل إلى يهودا والسامرة ، بدلا من ضم يهودا والسامرا الى اسرائيل ، ميزة أخرى مهمة هي صمت "العالم". إن إدارة بايدن والاتحاد الأوروبي ، لن يسرعوا في حماية تل أبيب كما فعلوا في قضايا سابقة ، حيث لا يحظر القانون الدولي "الانتحار القومي" ، أو تفكيك الآليات الديمقراطية للدولة لصالح الحكم المطلق الديني. هذه "مسائل داخلية" بين الدولة ومواطنيها ، وليست مسألة "مصالح دولية" ، كما يقول عدد من المتابعين . على الأكثر ، سيكون هناك بعض الشكاوي في العواصم الغربية ، لكنهم لن يوقفوا قطار انقلاب نتنياهو .
المطلوب الان برأي وامام واقع المثلث بين واشنطن وبروكسل وتل أبيب ، هو اولا ، تصعيد المقاومة السياسية والدبلوماسية والشعبية على الارض وبالمحافل والمحاكم الدولية استنادا الى تنفيذ قرارات المجالس المركزية بما يضمن تحسين الصورة والأداء في كل مؤسساتنا وإجراء الانتخابات كاستحقاق ديمقراطي . ثانيا، ضمان تنفيذ العقد الاجتماعي المتمثل بالقانون الأساسي ووثيقة اعلان الاستقلال . ثالثا ، التمسك أمام أي مقترحات أو صفقات ممكنة بمبداء انهاء الاحتلال الاستيطاني اولاً والابتعاد عن سراب الحلول الاقتصادية والامنية . رابعا ، الارتقاء بالعلاقات مع القوى الديمقراطية والتقدمية الحقيقية باوروبا والولايات المتحدة بما فيها من منظمات يهودية معادية للصهيونية لمواجهة تحالفات اليمين النيوليبرالي الدولي المتوحش . خامسا ، اتقان حالة التموضع السياسي الفلسطيني ممثلا بمنظمة التحرير كاطار جبهوي وطني وتمثيلي وحيد في معادلات ما يجري بالعالم من تحولات نحو نظام دولي جديد يكون اكثر عدالة لقضايا الشعوب .