الحاضنة الشعبية بين التعزيز والدور المطلوب
وسط أعمال المقاومة الجارية في الضفة الغربية وحالات استهداف المستوطنين من قبل المقاومين الفلسطينيين وما يتلو ذلك من اجراءات اسرائيلية تعسفية بحق المواطنين، من اغلاق تام وفرض حصار مطبق عليها يطال الزائرين من لمناطق العمليات ، طفى على السطح الفلسطيني من جديد موضوع الحاضنة الشعبية ، حيث تجلت النخوة الشعبية لدى المواطنين ، وسارع الاهالي للاعلان عن فتح بيوتهم لايواء العالقين ومن تقطعت بهم السبل للمغادرة ، حتى ياتي الفرج وينظر الله في أمر كان مفعولا .
هذه الحاضنة الشعبية ، ليست غريبة على ابناء شعبنا ، فقد تجلت على مر التاريخ ، ومنذ عهد الانتداب البريطاني والثورات الفلسطينية المتعددة التي اعقبت ذلك الاحتلال البريطاني ، ففي عقد الثلاثينات وابان ثورة عام 1936 استبدل الفلسطينيين الطربوش بالكوفية والعقال للتغطية على الثوار ، وكل منا يذكر كيف قام شبان القدس بحلق رؤوسهم للتغطية على فرار الشهيد علقم والذي استهدف جنود الاحتلال على حاجز مخيم شعفاط ، وكثير من النماذج التي تؤكد على اللحمة الاجتماعية بين افراد الشعب الفلسطيني .
وبرهن شعبنا ، بالرغم مما كان يعصف به من انقسامات بالرأي او بالايدولوجيا او بالجغرافيا ، اكثر من مرة انه شعب غير قابل للقسمة ، وكالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد ، ومتمسك بحقوقه غير القابلة للتصرف ، وعلى استعداد للتضحية بالغالي والنفيس وتشكيل حاضنة شعبية للمقاومة والمقاومين.
وابعد من ذلك ، يمكن القول ، ان الشعب الفلسطيني اسقط كافة الرهانات الاسرائيلية ، وافشل المؤامرات التي حيكت وما زالت تحاك من الاحتلال واعوانه ، والسياسات التي دأبت حكوماته المتعاقبة والتي كانت ترمي الى القضاء على الحاضنة الشعبية وتغييب دورها او كأضعف الايمان تحييدها عن دعم المقاومة ، وذلك عبر وسائل مختلفة ودك الاسافين الخبيثة بين ابناء الشعب الواحد ، ومحاولة اسقاط او افساد البعض ، وجرهم الى مربع بعيدا عن الوسط الجماهيري .
الحاضنة الشعبية ، لم تقتصر على ايواء العالقين ، انما كان لها دور بارز في دعم المقامة ورفع معنويات المقاوميين ، ودفعهم الى الاقدام على مزيد من عمليات مقارعة الاحتلال ومقاومته وقض مضاجعه ، بايمان مطلق ان خلفهم ظهير شعبي داعم لهم بكل ما يؤتى من قوة ، بالتالي هي تحد من محاولات سلطات الاحتلال الاستفراد بالمقاوميين .
جملة من الاشكال تجلت فيها الحاضنة الشعبية ، ومجموعة من الفعاليات والنشاطات والمواقف مساندة للعمل المقاوم ، وفي معظمها تاتي انعاكاسا لمبادىء غير قابلة للمساومة ، ومواقف ايدولوجية تؤكد الانتماء الى ثقافة مشتركة بين ابناء الشعب الواحد ، ما يجسد القناعة لدى المقاوميين بالظهير الشعبي المساند وعدالة القضية التي يضحون لاجلها بأغلى ما يملكون وفي المقدمة ارواحهم .
هذا التناغم بين الحاضنة الشعبية والمقاومة ، لم يرق للاحتلال واعوانه ، فلجأت سلطات الاحتلال الى سلسلة من الاجراءات والتدابير للقضاء على هذه الحاضنة ، ومن اهمها سياسة العقاب الجماعي وفرض حصار مطبق وتقطيع اوصال المدن والبلدات الفلسطينية واعتقال العشرات من شيب وشبان واطفال ونسوة ماجدات ، ووصل الامر احيانا الى ارتكاب مجازر بحق البشر والحجر ، في محاولة نتيجتها كانت محسومة بالفشل ، ويائسة لبث الرعب في نفوس وقلوب عامة الناس ، ناهيك عن محاولات ايضا باءت بالفشل حتى اللحظة لتغييب الوعي الوطني وتهويد الانسان والامكنة وعبرنتها ، خاصة مدينة القدس ، وفرض وقائع جديدة تأمل سلطات الاحتلال في ديموتها واحتلال العقل الفلسطيني .
فالوعي الوطني الجماهيري في تزايد ، وهو احد الاسلحة في مواجهة الاحتلال ، وشعبنا ضرب اروع واسمى آيات التضحية والفداء ، دعما واسنادا للمقاوميين ، بل صار يتغنى بالعمليات البطولية وينظم الاناشيد والاهازيج في مناسباته المختلفة ، ويسارع العامة الى توزيع الحلوى ابتهاجا بالعمليات البطولية ، وذلك ما هو الا تعبير عن مدى الظلم والقهر الذي يكابده الشعب الفلسطيني من ويلات احتلال ظالم ، ويسارع العامة ايضا الى ايواء اسر ذوي منفذي هذه العمليات فيما لو جرى هدم منازلهم ، مؤكدين ان الشعب الفلسطيني كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
من دون شك ان الحاضنة الشعبية احدى وسائل المقاومة الشعبية ضد الاحتلال ، تلك المقاومة التي لم يكف الرئيس محمود عباس والقيادة الفلسطينية ، عن الدعوة اليها بالرغم من ضبابية الدعوة بعدم وضوح استراتيجية واضحة وآليات هذه المقاومة ، وبالرغم من بعض حالات التفكك الاجتماعي التي تضرب المجتمع الفلسطيني والناجمة عن اختلاف الثقافات ودخول ثقافات مستوردة على مجتمعنا تتعارض وثقافته وبيئته وعاداته وتقاليده وقبل ذلك كله دينه ، تبقى الحاضنة الشعبية العنصر المشترك والجامع لجميع هذه الثقافات ، الامر الذي يدفع الى التساؤل ؟ هل ستستطيع هذه الحاضنة مواصلة الصمود امام استهداف الاحتلال لها ؟
وسط حالة الانقسام الفلسطيني الجغرافي والايدولوجي الراهنة ، ووسط حالة الصراع " الناعمة " لاجل الخلافة والبقاء في سدة الحكم ، ووسط حالات الفشل المتكررة للمصالحة الوطنية ، ووسط حالة فقدان الثقة بين الهرم والقاعدة التي تعيشها الضفة الغربية وقطاع غزة ، وربما هناك العديد من المآخذ على الوضع الفلسطيني الراهن ، الا ان الشعب الفلسطيني ما زال محافظا على لحمته المجتمعية الى حد ليس بكبير ولكن ليس بالقليل ، هذه اللحمة والمتمثلة وفق المعطيات بالساحة الالتفاف حول المقاومة وبذل الجهد المستطاع لتوفير حاضنة شعبية مجتمعية لها .
ولكن هل تعفى القيادة والمسؤولين من مسؤولياتهم ويتوقف الامر عند ذلك وحسب ، أم ان هناك خطوات لا بد منها تتحملها القيادة في كلا من الضفة وغزة وحتى ابناء شعبنا في الشتات بالرغم مما يكابدونه من معاناة شانهم شأن باقي الشعب الفلسطيني في الوطن وكافة أماكن تواجده ؟
اولا : القيادة مطالبة باحتضان هذه الحاضنة وتعزيزها حتى لو استمر الانقسام ، مع انه لو كان هناك نوايا حسنة تصب في المصلحة الوطنية العليا من جميع الاطراف ، لا بد من انهاء هذا الانقسام فورا ومواجهة التحديات التي لم يسبق لها مثيل في الحالة الوطنية الفلسطينية !! الا ان اضعف الايمان هو دعم رسمي لهذه الحاضنة ما يعزز من العمل المقاوم الشعبي وتعزيز الوعي الوطني خاصة لدى عنصر الشباب ، بصرف النظر عن الاختلاف الايدولوجي .
ثانيا : الاتفاق على برنامج وطني متفق عليه من الجميع يعزز من العمل المقاوم والحاضنة الشعبية ويواجه مخططات الاحتلال ، وبالوقت نفسه من شأن ذلك ان يقلص الفجوة بين الهرم والقاعدة ويعزز من الالتفاف حول المشروع الوطني .
ثالثا : وضع خطط تراعي الوضع الداخلي والاقليمي والعربي والدولي ترمي الى تطوير العمل المؤسساتي خاصة تلك العاملة في الميدان الاجتماعي والمجتمعي وذلك من شأنه خلق آليات تواصل بين المؤسسة الرسمية والمؤسسات المجتمعية الداعمة للحاضنة الشعبية .
محاولات الاحتلال بكل تأكيد لن تكف عن مطاردة المقاوميين وحاضنتهم الشعبية ، واتخذت هذه المحاولات اشكالا مختلفة ، سياسية واقتصادية وجغرافية لالغاء دور الحاضنة الشعبية ، لكنها اغفلت ان الشعب الفلسطيني حي لا يموت وثورته انطلقت لتبقى وتنتصر طال الزمان ام قصر ، ولا يقاوم عن عبث انما لانتزاع حقوقه المسلوبة ولا يطلب سوى حريته وكرامته ، واجراءات الاحتلال مهما بلغت قسوتها الى زوال ، واثبت شعبنا انه وحدة واحدة غير قابلة للقسمة ، تجمعه مظلة الوحدة الوطنية ، مسقطا رهان المحتل بخلق فجوة بين الشعب والمقاومة على غرار تلك التي نجح فيها حتى اللحظة والاخذة بالاتساع بين القيادة والقاعدة .