الدولار الأمريكي وسيناريوهات المستقبل
يعتبر اجتماع مجموعة بريكس BRICS الأخير في جوهانسبرغ عاصمة جنوب أفريقيا اجتماعاً تاريخياً، وربما يكون الأساس لتحول جيوسياسي واقتصادي عالمي مستقبلي، وقد حضر هذا الاجتماع 69 دولة ناشئة ونامية، وقد خلصت نقاشات دول المجموعة الخمسة البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب افريقيا إلى نتائج أهمها الموافقة على انضمام ستة دول جديدة للمجموعة بداية من يناير 2024 وهي الأرجنتين، مصر، إثيوبيا، إيران، والسعودية والإمارات، ثانيها التأكيد على ضرورة إرساء قواعد نظام عالمي متعدد وإنهاء هيمنة الدولار على المبادلات التجارية العالمية من خلال تعزيز استخدام العملات المحلية، مما آثار الحديث عالمياً حول مستقبل الدولار الأمريكي، لذلك سنقوم في هذا المقال بالحديث عن الدولار الأمريكي تاريخياً، وأسباب هيمنته، وجحم تداوله في العالم حالياً، وسننهي المقال بالحديث عن السيناريوهات المتوقعة وهل ستتمكن الدول الناشئة ومنها مجموعة بريكس على إنهاء سيطرة الدولار الأمريكي على المعاملات المالية والتجارية العالمية.
الدولار الأمريكي تاريخياً
منذ الاتفاق المالي العالمي والمعروف ببريتون وودز في مايو 1944م بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح الدولار الأمريكي هو عملة العالم الوحيدة المستندة إلى غطاء الذهب، وهو عملة الاحتياط والصرف الأجنبي العالمية، وفي العام 1971م أعلن الرئيس الأمريكي نيكسون فك ارتباط الدولار بالذهب بشكل منفرد، ووقف قابلية تحويل الدولار الأمريكي إلى ذهب، وفي العام 1974 بعد أزمة ارتفاع أسعار النفط عقدت إدارة نيكسون صفقة مع المملكة العربية السعودية من أجل شراء النفط حصراً بالدولار الأمريكي، إلى جانب ضمانات أمنية لصالح السعودية، ومنذ ذلك الحين أصبح الدولار الأمريكي العملة الأكثر استخداماً في التعاملات التجارية والمالية حول العالم.
حجم تداول الدولار الأمريكي عالمياً
تشير بيانات صندوق النقد الدولي للعام 2022 إلى أن أكثر من 85% من معاملات الصرف الأجنبي حول العالم تتم بالدولار الأمريكي، وفيما يتعلق بالاحتياطات النقدية الأجنبية، يحتل الدولار المرتبة الأولى عالمياً بنسبة 59.14% (وقد كانت هذه النسبة تتجاوز 70% قبل عقد من الزمن)، وفي المرتبة الثانية يأتي اليورو، حيث يمثل حوالي 19.99%، وفي المرتبة الثالثة يأتي الجنيه الإسترليني والذي يمثل 4.83%، وفي المرتبة الرابعة الين الياباني بنسبة 5.33%، وفي المرتبة الخامسة اليوان الصيني بنسبة 2.79% (وقد دخل اليوان الصيني كعملة احتياط بعد العام 2016)، وتتوزع النسبة المتبقية على عدد من العملات المحلية العالمية، وبالتالي تظل مساهمة العملات المحلية للدول الناشئة والنامية قليلة جداً في معاملات الصرف الأجنبي والاحتياطات النقدية العالمية.
أسباب هيمنة الدولار الأمريكي
يمكن الحديث عن أربعة أسباب لهيمنة الدولار الأمريكي كما ذكرها الكاتب الإقتصادي مايكل ليبوبيتز، أولها سيادة القانون حيث يحمي القانون الأمريكي الأجانب على قدم المساواة مع الأمريكيين أمام المحاكم الأمريكية، ثانيها أسواق الأموال السائلة، حيث يسهل تسييل الدولار الأمريكي في الأسواق المالية العالمية، ويستطيع الأجانب الاقتراض والاستثمار به، ويمثل الدولار 40% من أسواق السندات العالمية، ثالثها القوة الاقتصادية، فالدولار الأمريكي هو العملة المفضلة لتسهيل التبادل التجاري من قبل الدول والمستثمرين، ورابعها القوة العسكرية الأمريكية، وبالتالي تمتع الاقتصاد الأمريكي بمتانة عملت على ثقة الدول والشركات والأفراد بالدولار الأمريكي وأصبح عملة تحوط من الأزمات.
وفي ظل النقاش الذي يدور حالياً حول العالم عن مستقبل الدولار الأمريكي في حال قامت الدول الناشئة ومنها دول بريكس باستخدام العملات المحلية في المعاملات التجارية والمالية أو استخدام عملة موحدة، فقد قمنا بوضع ثلاث سيناريوهات.
السيناريو الأول: استمرار سيطرة الدولار على المعاملات التجارية والمالية
ويستند هذا السيناريو إلى أن قوة الدولار مرتبطة بقوة أمريكا العسكرية والاقتصادية ونفوذها السياسي، وثقة الدول والشركات والأفراد بمتانة ورصانة الاقتصاد الأمريكي والذي يدفعهم للثقة بالعملة الخضراء، وجعلها عملة تحوط من الأزمات، وبذلك من الصعب تحول الدول الغنية وخاصة النفطية عن عملة الدولار الأمريكي، إضافة إلى مديونية الدول الناشئة بمليارات الدولارات، وارتباطها بالمؤسسات المالية الدولية التي تسيطر عليها أمريكا والدول الغربية.
السيناريو الثاني: تآكل سيطرة الدولار الأمريكي وتنامي محدود لحصة العملات المحلية للدول الناشئة
ويستند هذا السيناريو إلى تنامي استخدام العملات المحلية للدولة الناشئة وهو ما يحصل حالياً بين دول بريكس، وتعاملها بالعملات المحلية في نطاق محدود مثل الروبل الروسي، الروبية الهندية، واليوان الصيني، وغيرها......، فعلى سبيل المثال قامت الصين بين الأعوام 2016م و2023م بتوقيع اتفاقيات مع الكويت وروسيا وفنزويلا والإمارات وعمان والبحرين وقطر والسعودية، البرازيل، الأرجنتين، العراق لتسوية الدفعات التجارية بينها بالعملة الصينية، إضافة إلى مساعي صينية نحو إقناع دول الخليج من أجل تسوية تعاملاتها النفطية بعملة اليوان الصيني، وكذلك فعلت الهند، وروسيا.
السيناريو الثالث: زوال هيمنة الدولار الأمريكي في المدى البعيد وتقاسم سلة من العملات التعاملات المالية العالمية.
ويستند هذا السيناريو إلى تطبيق دول بريكس القرار الذي اتخذته بالتعامل مع سلة عملاتها المحلية لخدمة مصالحها الاقتصادية مع بعضها وكذلك مع الدول المختلفة حول العالم خاصة في مجال التعاملات النفطية، وإنشاء بنك للتنمية يتبع المجموعة، إضافة إلى اقترح رئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم إعادة إحياء تدشين صندوق للنقد الآسيوي على غرار صندوق النقد الدولي، ليفك الارتباط القوي لدول آسيا بالدولار الأميركي ويعزز من اقتصاد القارة، ويستند هذا التوجه تكرار العقوبات الأمريكية واستخدام الدولار الأمريكي ضد العديد من الدول كأداة للعقوبات الأمريكية.
السيناريو الأقرب للتحقق
السيناريو الأقرب للتحقق هو السيناريو الثالث والذي يفترض زوال هيمنة الدولار الأمريكي في المدى البعيد، من خلال العمل على إضعاف هيمنته في المدى القريب والمتوسط، مما سيؤدي إلى تقاسم سلة من العملات حصص مختلفة في المعاملات المالية والتجارية العالمية، ويدعم هذا السيناريو خطوات دول بريكس والدول الآسيوية والتي بدأت في إثارة قلق الولايات المتحدة التي تتابع عن كثب التمدد الاقتصادي للدول الناشئة في العالم، وتزداد المخاوف الأمريكية إذا قررت دول الخليج وخاصة السعودية الاستغناء التدريجي عن الدولار الأمريكي في المعاملات النفطية العالمية.