كان بالإمكان أفضل مما كان.. ولكن
ثلاثون عاماً، مرّت على توقيع اتفاقية أوسلو. غادرت الدنيا أجيال وحضرت أخرى.
كان الاحتفال في حديقة البيت الأبيض حدثاً تاريخياً، استحوذ على اهتمام ومشاهدة مئات ملايين الناس، لا شيء يدعو للغرابة، فالأمر يتعلّق بقضية العصر. والاحتلال الغريب المتبقّي الذي لم يجد له حلاً لا بالحروب ولا بمبادرات السلام الكثيرة.
عشرات زعماء العالم، ورؤساء الحكومات والوزراء كانوا هناك، شهدوا على تلك اللحظة التاريخية، ليتّضح بعد ذلك، وخلال الأعوام الثلاثين أنّهم جميعاً كانوا شهودَ زُور، وأنّ مضيفيهم الأميركيين قد تخلُّوا عن التزاماتهم، وتركوا الاتفاق يموت خنقاً على أيدي من وَقّعوا عليه من الجانبين الأميركي والإسرائيلي.
رصاصةٌ واحدة أودت بحياة إسحق رابين الذي وقّع على الاتفاق بعد عام ونصف العام فقط من بدءِ سريان الاتفاق وتشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية.
وبعد نصف عامٍ آخر، أي في شهر حزيران 1996، سقط ما تبقّى من الاتفاق على يد بنيامين نتنياهو الذي فاز في الانتخابات العامة الإسرائيلية آنذاك.
ثلاثون عاماً، تخلّلها، أيضاً، سقوط حزب العمل، الذي قاد زعماؤه مهمّة إقامة إسرائيل العام 1948، ومع اختفائه عن التأثير في الحياة السياسية تدريجياً، اختفى تدريجياً اتفاق أوسلو، من خلال إعلانات صريحة من قبل رؤساء الحكومات الإسرائيلية.
تنشط في هذه المناسبة، ورشات العمل، والحوارات، والتصريحات، ويتكرّر خلالها الحديث ذاته منذ ثلاثين عاماً، ولا يزال الحدث ذاته يخضع للدراسة، والنقاش، لينتهي إلى لا شيء سوى إعادة تأكيد الرّافضين للاتفاق، ودفاع ضعيف لمن وقَّعوا عليه.
حين تسأل عن سبب مُعاودة النقاش في هذا الملفّ تسمع تبريرات غير منطقية. فالبعض يقول، إن الأمر يتعلّق بضرورة تثقيف الجيل الذي وُلدَ بعد «أوسلو»، أو ضرورة ممارسة الضغط على من يواصلون التمسُّك به، وبمنهجه السياسي.
لا يعدو الأمر كونه مواصلة عملية اللطم، واجترار خطاب التحريض كلّ على الآخر من دون أن يحقق ذلك أيّ نتيجة سوى جَلدِ الذات، ومواصلة النيل من عوامل القوّة الفلسطينية.
كان لا بدّ من التجرُّؤ على طريقة التفكير التقليدية السائدة إزاء قراءة أسباب وأبعاد والنتائج المترتّبة على ذلك الاتفاق الذي أكّدت التجربة أنّه ينطوي على ملاحظات جدّاً مهمّة وخطيرة.
هناك من يقول إنّ خطورة الاتفاق أنّه لم يكن اختياراً سليماً، ولا يمكنه أن يحقق الحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية الوطنية.
وثمّة من يركّز على الخطايا الكبيرة التي تضمّنتها نصوص الاتفاق، وهناك من يقول، إنه بالجملة كان خياراً خطيراً وفاشلاً، بما في ذلك نصوصه.
إذا كان من الغباء العودة إلى محطّات مضى عليها عقود من الزمن، ولكن من المهمّ أن نسأل عن الظروف التي أدّت بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية لأن تتجه نحو الأخذ بخيار «أوسلو».
لا يتّسع مقال محدود المساحة لمعالجة هذا الأمر ولكن دعونا نسترجع تلك الظروف، ونتخيّل ما هي الخيارات البديلة الممكنة آنذاك.
قيادة المنظمة ومقاتلوها، بعد الغزو الإسرائيلي للبنان العام 1982، كانت في وضعٍ لا تُحسد عليه، هي موجودة في تونس، ومقاتلوها تحوّلوا إلى موظّفين عاطلين عن العمل.
تونس لم تكن بسبب البعد الجغرافي تشكّل جبهة قتالٍ، فضلاً عن أنها لم تكن قادرة على حماية ضيوفها، فلقد اغتالت إسرائيل على أرضها الشهداء «أبو جهاد» و»أبو إياد» و»أبو الهول» وآخرين.
الفصائل الأخرى التي انحشرت في سورية، لم يكن يجرؤ أحد من مناضليها على أن يقترب من الجولان حتى لأغراض سياحية.
أزمة في المنظمة وانقسام في حركة فتح، وعلاقات متدهورة لقيادة المنظمة مع النظام السوري، ولبنان خاضع لاعتباراتٍ داخلية لا تسمح بعودة المقاومة الفلسطينية.
وفوق هذا وذاك، وضع عربي مفكّك وضعيف، جعل مقعد منظمة التحرير في «قمّة عمّان» العام 1987، على كفّ عَفريت، وإعلانات صريحة من قبل مستشار الأمن القومي الأميركي آنذاك زبيغنيو بريجنسكي بتجفيف موارد المنظمة.
الانتفاضة الشعبية الكبرى العام 1987، أعادت الاعتبار للمنظمة، وأرغمت العرب على عقد قمّة لدعمها، ولكن ذلك كان أمراً مؤقّتاً، مرتبطاً باستمرار الانتفاضة.
السؤال: هل كانت الانتفاضة، ستستمر لسنواتٍ طويلة، وأن تتمكّن من إنجاز المهام الوطنية، بصرف النظر عن العوامل التي دخلت على خطّها، وأدّت إلى تراجعها؟
وهل كان بالإمكان أن تندلع انتفاضة أخرى بعد سنوات، يمكن أن تفرض القضية الفلسطينية على الأجندات العربية والإقليمية والدولية، أم أنّ البحبوحة المعيشية والاقتصادية للفلسطينيين كانت تُضعف من هذه الإمكانية؟
يبدو لي أن «أوسلو» كانت مدخلاً لمرحلة جديدة من الصراع، مع الإدراك العميق لكلّ ما تنطوي عليه الاتفاقية من خطايا وأخطاء اتّضح مدى خطورتها لاحقاً.
وبالرغم ممّا واجهته منظمة التحرير والثورة الفلسطينية من ظروفٍ وعواملَ مجافية قبل «أوسلو»، فإنّ الكفاح الميداني ظلّ في فلسطين بينما بقي القرار للقيادة في الخارج، ولم يكن من السهولة أن ينتقل القرار إلى حيث الميدان.
ومن دون أن نطوي صفحة من التاريخ ستظلّ محلّ جدلٍ فإنّ طبيعة الصراع أدواته وأهدافه وآلياته، تخلق ديناميات جديدة ومتجدّدة، لا يمكن إغفال، أو التقليل من أهمية عودة الآلاف من المناضلين الوطنيّين المُعبَّئِين ضدّ الاحتلال، وكذا عودة القيادات السياسية، حيث أصبح القرار والفعل الكفاحي على أرض فلسطين.
ولا يمكن إغفال أو التقليل من أهمية تبلور هويّة كيانيّة فلسطينيّة ملموسة على أرض فلسطين، بالرغم من كلّ ما يمكن أن يُقال عن منظمة التحرير، ما هي عليه وما يجب أن تكون عليه، وبالرغم من الانقسام الفلسطيني.
الشعب الفلسطيني، اليوم، مُوحَّد تحت الاحتلال، بكلّ مواقعه، ونقصد داخل فلسطين التاريخيّة، والقضية الفلسطينية تفرض نفسها على مختلف الصعد، وثمّة إنجازات سياسية ودبلوماسية متراكمة.
نعم على جلد الشعب الفلسطيني، تتبلور هويّة الاحتلال العنصري الفاشي، تقابلها مقاومة عنيدة، مستمرة، ستضع العالم بمن في ذلك حُلفاء إسرائيل أمام حقائق واضحة سيأتي يوم وتفرض نفسها على الرأي العام العالمي، الذي ينبذ ويُقاوم العنصرية.