طوفان الاقصى.. دروس وعبر
ليس من الضروري ان تتوج عملية طوفان الاقصى التي انطلقت من قطاع غزة نحو اهداف احتلالية اسرائيلية ان تتوج بنصر مؤزر ! وليس من الضروري ان تقود هذه العملية الفدائية الى احقاق الحقوق الوطنية الفلسطينية المشروعة في الوقت الراهن ! وليس من الضروري ان تؤتي هذه العملية البطولية ثمارها كاملة ! ولكن من الضروري ان يفهم جيدا ان هذه العملية النوعية والفريدة في تاريخ الثورات الفلسطينية ومقاومتها للاحتلالات المتعددة منذ نكبة عام 1948 وحتى الان ، فيها كثير من الدروس والعبر، ما ان امعنا بها واستخلصنا عبرها جيدا سيكون هناك كثير من النتائج الايجابية مستقبلا بعيدا عن سلبياتها الانية .
اولا : لاول مرة في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي والذي بات يعرف بالصراع الفلسطيني الاسرائيلي – بعدما نجحت قيادات الاحتلال في تحييد العديد من الاشقاء العرب والمسلمين ، واستقطاب الدول الصديقة سابقا الى جانبها – ان يتحول المدافع الى مهاجم يقود معركته في ارض العدو لا يمتص الصدمات والضربات كما كان سابقا بل يقض مضاجعه في عقر داره ولا يكتفي بموقف المدافع والمتمترس في ارضه منعا لسلبها منه كما سابقاتها من الحروب العدوانية .
ثانيا : استغلت المقاومة الفلسطينية الحالة الانسانية في قطاع غزة ونجحت في تضليل الرأي العام العالمي ، في الوقت الذي كانت تعد فيه العدة للانقضاض على العدو ، وباغته في وقت كان فيه قد اتخذ جانب الامان من قطاع غزة ، عنصر المباغتة هذا اكد بما لا يدعو الى الشك على فشل ذريع للاذرع الامنية للاحتلال واسقط من جديد نظرية الجيش الذي لا يقهر، وابعد من ذلك ادخل العدو في صدمة بحاجة الى وقت طويل للاستفاقة منها .
ثالثا : تجلت في هذه العملية الاخلاق الثورية الوطنية ، ومن قبل الاخلاق الاسلامية في كيفية معاملة الاسرى والرهائن الذين جرى اسرهم خلال العملية ، حيث لم يقدم اي من المقاومين الى قتل اي ممن لم يبادر الى رفع السلاح بوجههم خاصة النساء والاطفال ، وجرى اقتيادهم الى مناطق اسرهم بكل انسانية واجراء اللازم لهم طبيا حفاظا على ارواحهم ، حتى ان هناك من الاسرى من وضعت طفليها التؤام في مشفى الشفاء بغزة ووفرت المقاومة لها المستلزمات الطبية بكل سكينة وطمانينة ، وهو مغاير تماما للمعاملة الاجرامية التي يتلقاها الاسرى والمعتقلين الفلسطينيين من الاحتلال والذي بممارساته التعسفية الارهابية لا يميز بين مدني سواءا كان مسنا ام طفلا ام نسوة ، والتي فاقت الممارسات النازية والفاشية بحق من كان ضحية يوما ما واصبح جلادا يتففن في ممارسة اشكال الارهاب بحق ضحايا ابرياء ، لا ذنب لهم سوى اصراراهم على انتزاع حقوقهم المشروعة وفي مقدمتها استرداد ارضهم السليبة والعودة الى ديارهم والعيش بحرية وكرامة . رابعا : كشفت هذه العملية – وذلك كان ربما واضحا مع بدء الحرب الروسية الاوكرانية – ولكن أكدت بما لا يدعو الى التنبيه حتى انما التذكير فقط ، على حقيقة المجتمع الدولي ووجهه البشع وفي مقدمته الدول العظمى : الولايات المتحدة الامريكية ، بريطانيا ، فرنسا ، المانيا وحتى ايطاليا ، وسياسة ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين والاسراع الى اعلان التأييد المطلق لما اسموه "حق الاحتلال في الدفاع عن نفسه" وتبنيه سلسلة من العقوبات بحق الشعب الفلسطيني وقياداته ، وابعد من ذلك الاعلان عن امدادات مالية وعسكرية كبيرة للتصدي لما اتفق على وصفه فيما بينهم " ارهاب حماس " ، دون ادنى مراعاة او عقلانية ، ان من يجري التصدي " لارهابه " ما هو الا مجرد حركة مقاومة وحفنة من المسلحين ، هم بحقيقة الامر ابطال نذروا انفسهم في سبيل استرجاع الحقوق المسلوبة ونصرة المظلومين ومقاومة الظالم ، متسلحين بالايمان والارادة الصلبة والعزيمة القوية اولا ، ومن ثم امكانيات محدودة متواضعة قياسا بالامكانيات العظمى التي يمتلكها الاحتلال واعوانه ، الامر الذي يدعو الى الانحناء امام اصرار هذه المقاومة الباسلة .
خامسا : هذا الدعم اللامحدود من القوى العظمى للاحتلال شجعه على الامعان في عدوانه وارهابه ، واتضح ذلك من قسوة القصف العشوائي الذي قام به على قطاع غزة والذي لم يميز بين مسلح ومقاوم وبين طفل او مسن او مريض او امرأة ، الى درجة ان هناك عائلات باكملها مسحت من السجل المدني ، قضت تحت انقاض القصف البربري ، الهدف منه تحويل القطاع الى مقبرة جماعية وتهجير من يبقى على قيد الحياة . ويمكن القول ان سلطات ستمعن اكثر في القتل الجماعي والقصف العشوائي الدموي على غزة والقمع اليومي بالقدس والضفة الغربية وافلات قطعان المستوطنين لارتكاب مزيد من الجرائم الوحشية ، متذرعة بالهجوم النوعي الاول للمقاومة ، والتاريخ حافل بمجازر مماثلة ولعل مجازر القتل الوحشي التي مارسها الحركات الصهيونية منذ دير ياسين وكفر قاسم والسموع والدوايمة وصبرا وشاتيلا وقانا وبحر البقر وعشرات المجازر شاهد ما زال حيا في اذهان كل فلسطيني وعربي ، والهدف من ذلك ارهاب الامة العربية والاسلامية كي تبقى خاضعة وذليلة للمشروع الغربي ولكي لا تمتلك مقومات نهوضها ابدا .
سادسا : من دون شك ان المقاومة وضعت في حساباتها ردة الفعل الاسرائيلية ، وعلى ضوئها وضعت خططها وسارعت الى تنفيذها لامتلاك نقاط قوة تضغط من خلالها للتخفيف من حدة ردة الفعل ، ولكن كما يبدو ان الاحتلال لم يفهم الدرس جيدا ، لا من سياساته السابقة ولا من الحالية ، ومضى يمعن في غطرسته وعنجهيته في احتقار الشعب الفلسطيني وقياداته ، الى درجة وصل في رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ان يصف الرئيس محمود عباس " برئيس بلدية رام الله " ، والاصرار على التنكر للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة وامتهان كرامته والنيل من مقدساتهم واسراه ، وها هو يمارس نفس الهمجية المعهودة بدعم دولي وصمت عربي واممي ويقوم بقصف بربري همجي طال الاطفال والشيوخ والنساء والعزل ، ولكن ، وبعد الترحم على شهدائنا الابرار ، فمن دون شك ان طريق الحرية والكرامة معبد بالدماء الزكية وقوافل من الشهداء .
سابعا : اكدت هذه العملية ، ان ما تسمى دولة اسرائيل ، المدججة باحدث الاسلحة الفتاكة وجيشها لا يقهر ، والمحصنة بالقنابل النووية والجدر الاسمنتية العاتية ، اوهن من خيط العنكبوت ولا تفهم سوى لغة القوة ، وانهيارها رهينة بفعل مخطط له باحكام ، بالتالي من السهل اخضاعها لتمتثل للقوانين والشرائع الدولية والانسانية وفرض السلام الشامل والعادل الذي يضمن احقاق الحقوق لاصحابها .
ثامنا : بات من المؤكد ، ومن خلال ردات الفعل العربية والاسلامية الشعبية ، والتي كانت في اوجها حين نزلت الشعوب العربية قاطبة ، من المحيط الى الخليج الى الشوارع تطالب بفتح الحدود للجهاد في سبيل تحرير فلسطين ، صحة المقولة الداعية الى ان الطريق الى تحرير فلسطين سيقود الى الطريق لوحدة الامة العربية ، وليس العكس ، وهو ما يدركه الاستعمار الغربي وادواته الحالية من العرب والعجم ويقدم الدعم اللازم لاستمرار الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين ، ومن هنا يجهدوا بالعمل على عدم الوصول الى اقامة دولة فلسطينية لانهم يدركون ان قبلة العرب والمسلمين السابقة هي ذاتها الحالية وستبقى كذلك دائما وابدا ، وان الشعوب العربية حاضنة اساسية لشعب فلسطين وقضيته العادلة . كما تؤكد ردات الفعل الشعبية ان كل مخططات الاحتلال للتطبيع مع دول عربية فاشلة وسط تزايد الكراهية في الاوساط الشعبية العربية وانتهاءها وانقلاب السحر على الساهر ما هو الا مجرد وقت .
في ضوء من سبق ، وفي ظل الوضع الراهن الذي تعيشه الساحة الفلسطينية بشقيها : غزة والضفة والقدس الشريف ، وقبل ان يجرف الطوفان الجميع دون استثناء ، باتت الضرورة ملحة اكثر من اي وقت مضى الى الوحدة الوطنية وطي صفحات الماضي بكل ما فيها من ظلمات ، والالتفاف الصادق حول خيار الوحدة الوطنية والارتقاء الى برنامج وطني يعزز العمل المقاوم الوحدوي ويواجه المخططات الخبيثة المبيتة للمنطقة ، وفي مقدمتها تصفية القضية الفلسطينية ، والعمل الموحد في استغلال الازمات وخاصة هذه الملحمة البطولية وما يعيشه الاحتلال من ازمات داخلية والشرخ الذي دك عصبه ، وتحويلها الى فرص ممكنة من خلال مضاعفة العمل الدبلوماسي مع الاشقاء العرب والاصدقاء في المجتمع الدولي للضغط لاجل ايقاف العدوان البربري على القطاع والتحذير من القادم ، ما من شأن ذلك ان يعيد للقضية الفلسطينية اعتبارها واولويتها محليا واقليميا وعربيا ودوليا .
اما محليا ، فالاطر الفلسطينية كافة مدعوة الى تشكيل لجان شعبية في مناطق الضفة الغربية على وجه الخصوص ، ترصد وتتصدى لاي عدوان قد يقدم عليه قطعان المستوطنين ، خاصة بعدما اعلن رسميا ان سلطات الاحتلال قررت تزويد المستوطنين بالاسلحة ، لا لحماية انفسهم انما لشن اعتداءات على ابناء شعبنا العزل .