إنها ليست غزة المستهدفة فقط، إنه مرتكز هويتنا الوطنية والكُل الفلسطيني
إن الأحداث الحالية قد جاءت نتاجاً لتراكم عقود طويلة من الأستعمار والأحتلال والقهر والذي شهد آلاف الضحايا والمصابين من ابناء شعبنا المحاصرين في سجن غزة المفتوح المشابه لغيتوهات النازية سابقا في أوروبا ، كما بكل الوطن والقائم بفعل الأجرام الإسرائيلي واستمراره بمختلف الأشكال.
إن واقعنا الفلسطيني الوطني الراهن لا يقتصر على غزة فقط برغم مخاطر ما يجري بها ، بل في كل المدن والمخيمات على امتداد أرض الوطن التي تشهد اليوم تغول جرائم الأحتلال ومستوطنيه ، بسياقاته ومُركباته التي صاغت هذا المشهد المتداخل من اعجاز المقاومة لدى ابناء شعبنا الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والقدس المحتلة والتي قد أعطت أملاً جديدا لأبناء شعبنا في قدرته على إلحاق الهزيمة بالمحتل الإسرائيلي ، وخاصة بما تلخص في السابع من اكتوبر وبطولته بهدف استثماره سياسيا بما يحقق دحر الأحتلال تكاملا مع كفاحنا السياسي المقاوم .
إن المشروع الوطني الفلسطيني التحرري بأهدافه المتمثلة بهزيمة المشروع الاستعماري، والعمل من أجل إنضاج كافة الشروط والعوامل اللازمة لهذا الانتصار نحو حق تقرير المصير والاستقلال الوطني واسقاط نظام الفصل العنصري ، يتمثل في توظيف كافة المُمكنات لتحقيقه بما يتطلب منا التصدي لمجموعة من التحديات الراهنة على الصعيد الفلسطيني والعربي والدولي ، والتي يجب ان تتلخص بثبات الموقف السياسي التاريخي وفهم المتغيرات الدولية اليوم التي تستهدف الهيمنة الأمريكية وانهائها من خلال صعود قوى جديدة تعمل نحو عالم اكثر عدالة . الا ان الولايات المتحدة بالمقابل وللحفاظ على هيمنتها تريد إشعال العديد من بؤر التوتر والحروب والربط بينها بما يخدم مصالح مجمعاتها الصناعية العسكرية والمالية في ظل اوضاعها الاقتصادية المتراجعه والمواجهة المفروضة مع الصين وروسيا من جهة اخرى حتى في منطقتنا .
إن ادراك ما نواجهه على أرض فلسطين بانه مشروع استعماري استيطاني إحلالي مركّب يمثل امتدادا لاطماع الغرب الاستعماري الذي انشأه على حسابنا نحن اصحاب الارض الاصليين يمثّل في سياساته وتحولاته المتعددة بُعداً لشكل الاستعمار الاستيطاني الجديد والاطماع الامبريالية للغرب التي لم تنتهي ، ليس فقط بواقعنا الفلسطيني فقط وانما بمناطق اخرى من العالم .
يضاف لذلك ممارسة الاحتلال وسياساته المتعددة القائمة على قاعدة المحو والإلغاء والاقصاء لغير اليهود ، ولشعبنا الفلسطيني، ولأهدافه المُعلنة التي يعمل الأحتلال على تحقيقها من خلال ممارستهم لسياسة التطهير العرقي وجريمة النكبة المستمرة حتى الآن والتي تتم بفعل تلك الايدولوجية الصهيونية الاقصائية العنصرية وصمت الغرب بل وتعاونه في تنفيذ ذلك من خلال حماية دولة الاحتلال من المحاسبة والعقاب بل واعطائها مبرر الدفاع عن نفسها ، الأمر الذي في حقيقته هو الدفاع عن استدامة استعمارها العنصري .
وهنا أعيد ما نقلته على لسان القائد الأسير مروان البرغوثي في كلمتة يوم أمس بالتظاهرة التضامنية باليونان ؛ "إن مُرتكز الهوية الوطنية الفلسطينية يتمثّل في ثنائي المقاومة والتحرير ، وكل انتكاس في أحد المرتكزين، أو كلاهما، يجد ترجماته على صعيد الهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة، ويفتح المجال أمام الهويات الفرعية لأن تتقدَّم، وهذا يجعل وحدة الخيار المتمثّل بالمقاومة ووحدة الهدف ممثّلاً بالحرية والاستقلال الوطني ، مركّبات بنيوية للهوية الوطنية الفلسطينية."
وبالتالي فإن النظر إلى الأمور والاحداث بمعزل عن كافة أبعاده المختلفة والتي تتمثل منذ عقود بجرائمهم متعددة الزمان والمكان دون اغفال أن مشروعهم يتعدى طبعا قطاع غزة والضفة الغربية والقدس ، بما يشمل كل فلسطين التاريخية التي هي جوهر مرتكزه ، بل ويتمثل ايضا "بمملكة او أرض اسرائيل الكبرى " وفق معتقداتهم التوراتية والصهيونية ، التي تشمل ايضا جزء من جغرافية عدد من دول المنطقة العربية وحتى جزء من قبرص وفق الخرائط التي تعلنها حكومة الثلاثي نتنياهو وبن غفير وسموتريتش ومعهم جانتس اليوم بعد انضمامه لحكومة اجماع الحرب والعدوان قبل أيام . هذا المشروع الذي يسعون له اليوم من خلال اتفاقيات التطبيع مع عدد من الدول العربية بتوجيهات امريكية وفق رؤية الشرق الأوسط الجديد الذي لم يَسقُط من حسابات مخططاتها الاستراتيجية للمنطقة التي تستهدف بالاساس قضيتنا الوطنية واعادة تكرار ما قاموا به بامريكيا اللاتينية بسبعينات القرن الماضي كما باليونان وقبرص ، والبلقان لإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية المفترضة من جانبهم ، بانهاء دور الحركات الوطنية وتراثها الثوري ، ومن خلال تصعيد سياسة مشروع الحسم المبكر الاستيطاني بالقدس والمحافظات الشمالية بتسارع ، الى جانب العدوان الهمجي القائم الذي يستهدف ابناء شعبنا والمتمثل بمحرقة مستمرة بكل معاني الكلمة ضد أهلنا في غزة اليوم لمحاولة تنفيذ الترانسفير .
ان تعريف مشروعهم الاستعماري يَفتَرض هدف هزيمته وتفكيكه ، فهو ليس شريكاً بالسلام في ظل انحدار مجتمعاتهم المتباينة نحو اليمين العنصري رغم أزمتهم ، ولا جاراً يسعى لبسط الأستقرار المنطقة ، ومن الصعب تصوُّر الوصول إلى تسوية سياسية معه في ظل ايدولوجية النظام العنصري الصهيوني الأستعماري القائم واحلامه، لان ذلك يتعارض مع مركّباته ومرجعياته ومنهجيته وثوابته ومصالحه التي تمثلها الحركة الصهيونية العالمية وادواتها .
إن النضال التحرري الفلسطيني جزء لا يتجزأ من النضال التحرري في العالم من أجل الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والسلام.
وباعتبار النظام الاستعماري في فلسطين ممثلا لنظام الهيمنة الدولي القائم حتى اليوم . فمن الطبيعي أن تجد حركتنا الوطنية الفلسطينية عمقاً وتحالفاً وتضامناً معها في شتى أرجاء الأرض ، وبصورة خاصة مع الشعوب والقوى الديمقراطية والتقدمية وقوى الحرية والعدالة.
وقد عبّرت عن ذلك حركة التضامن العالمية الواسعة خلال العقد الأخيرة كما حركة المقاطعة وما تمثله مظاهرات الشعوب في كل مراحل الإرهاب الاسرائيلي ضد شعبنا ، وهذا ما نشاهده ايضا هذه الأيام في عواصم الدول المختلفة من تضامن شعبي مع فلسطين خاصة من القوى التقدمية واليسارية بأوروبا في ظل وجود حكومات من اليمين تساند دولة الأحتلال وتبرر لها جرائمها تحت ذريعة الدفاع عن النفس . وهذا يستدعي خطاباً فلسطينياً تحررياً وحراكا من الدبلوماسية المقاومة الرسمية والشعبية من اجل اوسع تضامن أممي مستمر ومتصاعد بين شعبنا الفلسطيني وشعوب الدول وقواه الحرة وحتى عدد من الحكومات ، ليصبح إنهاء النظام الاستعماري في فلسطين والهيمنة الاستعمارية للغرب وفق مشروعهم الامبريالي وعلى راسها الولايات المتحدة هدفاً لكل الشعوب والقوى المحبّة للحرية والعدالة والكرامة والتقدم في هذا العالم ، وشرطاً للسلام والأمن العالميين بما في ذلك بمنطقة شرقنا الأوسط.
أن ما أتى به "بلينكن" بمرافقة البارجة الحربية والطائرات والقنابل المتطورة ، والذي ذَكَر بهيوديته بشكل عنصري امس هو من أجل اثارة تلك النزعة الدينية البغيضة، وأن يبرر لإسرائيل ما تقوم به من جرائم ضد الإنسانية ومن أجل حماية هذه المستعمرة كنقطة ارتكاز في مشروعهم ، ومحاولة اختصار ما تقوم به إسرائيل وكأنه حرب ضد "حركة حماس" التي يستفاد من تصويرها "بداعش" اما شعوب العالم، ومن اجل ترهيب الدول العربية ودول المنطقة الاخرى بالقوة العسكرية ومن ضمنها إيران واقطاب محور المقاومة التي ما زلنا لم نرى ترجمتها العملية لشعار وحدة الساحات لمساعدة شعبنا ومقاومته في غزة ، ربما لعدم رغبة البعض منهم في توسيع نطاق الحرب أو ربما لان البعض يبحث عن مصالحة في ظل هذه الأزمة.
لكنها الولايات المتحدة هي من يمارس الأحتلال علينا وهي التي تتحمل المسوؤلية عن وعد بلفور ولم تُغير كما قال الأخ الرئيس أبو مازن قبل اسبوع في أحد المؤتمرات . فكيف لها اذن أن تحمي شعبنا وتوقف العدوان الاسرائيلي الذي يمارس سياسة التهجير الآن من شمال غزة بحق شعبنا الذي بات دون ماء وكهرباء بل ودون مسكن بالعراء ، الا اذ كان ذلك يتفق مع إرادة الإدارة الأمريكية ، وهو بالتأكيد كذلك . فهي صاحبة جرائم الإبادة والتهجير القسري بحق العديد من شعوب العالم بما يخدم مخططاتها لمحاولات التطويع المتجدد .
هذه المواقف المنحازة تكررها عدة دول من الاتحاد الأوروبي اليوم وبنفس سياق المنهج الفكري في تبعيتها الغبية للسياسة الامريكية دون مسوؤلية أخلاقية تمارسها لحماية الشعب الفلسطيني ، أو دون اصغاء لإرادة شعوبها حتى .
هنالك مهمة ملحة الآن أمام قوى الحرية بالعالم والإنسانية جمعاء لوقف العدوان اولا والتهجير القسري والابادة الجماعية بحق شعبنا وفتح مممرات انسانية عاجلة ، ليس للتهجير ولكن لادخال الماء والخبز والدواء كما في باقي الحروب وفق قوانينها .
ان حركة حماس ليست هي جوهر الأشكال رغم ما نتفق أو نختلف عليه معها . انه الأحتلال الأستعماري وارهاب دولتهم المنظم الذي يستهدف الكُل الوطني والمقاومة الوطنية بكل تشكيلاتها ، ما يتوجب على الأوروبين فهمه وادراكه .
ففي ضوء التجربة الغنية لمقاومة الشعب الفلسطيني للنظام الاستعماري على مدى ما يزيد عن مئة عام، فإن الدرس المستخلص هو ضرورة التمسك وتبنّي مبدأ المقاومة الكفاحية الشاملة والمتكاملة الأركان ، والتي تعني استخدام كافة الوسائل والأساليب والأدوات السياسية والدبلوماسية والقانونية والشعبية ، من دون إقصاء أيٍّ منها ، بما يتطلب الحكمة والمسوؤلية الوطنية وحماية شعبنا باختيار الوسائل والادوات المناسبة لكل مرحلة، فالمقاومة هي حق للشعوب التي تخضع لاشكال الأستعمار المختلفة كفلته لها المواثيق الدولية .
إن شعبنا الذي نهض من تحت الرماد مرات عدة ، وسجّل أسطورة الفينيق في الصمود والبقاء والمقاومة بالوطن وساحات الشتات ، جدير بحركة وطنية واحدة وموحدة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية واستنهاضها بشكل فاعل وديمقراطي على قاعدة شعبية واسعة ، فلم يفُت الوقت على ذلك رغم تأخره ، لتمتلك خطاب الأستمرار كحركة تحرر وطني جامعة ، حتى يبقى شعبنا الفلسطيني في الوطن والشتات حارس وصانع مستقبل المشروع الوطني الانساني والتقدمي بالحرية والعدالة ، فلا سلام دون عدالة ، ولا حرية دون وحدة وثبات شجاع .