الاحتلال لا يحتاج لذرائع لمحاولة تمرير مخططاته في ظل الرعاية والشراكة الأمريكية
رغم ان المقاومة الوطنية لأي احتلال تقتضي دائما إلحاق اكبر قدر من الخسائر بالمحتل بأقل الاضرار الممكنة على شعبها وعليها لأمكان صمودها واستدامتها لأطول فترة ممكنة بفكر خلاق يعتمد المبادرة واختيار الأهداف وتوفير الحاضنة الجماهيرية لها والاختيار الدقيق للزمان والمكان من اجل تحقيق هدف سياسي ، خاصة إذا لم تتوفر لها نقاط ارتكاز واستمرار امدادات خارجية دائمة كما في حالة المقاومة في فلسطين التي تقاتلها رابع قوة عسكرية بالعالم ، بما يختلف عن ما تَوفر لحركات مقاومة اخرى حول العالم في اوقات سابقة من دول مجاورة لها .
لقد كان التحدي من العملية المفاجئة بعد عقود من القهر ولأكبر جيوش العالم قوة ، هو علامة فارقة بما شكلته من تداعيات على جوانب مختلفة علينا وعلى المنطقة كما وأطراف دولية اخرى . حيث من المفترض أن تحقق استمرار الانتصار الذي تحقق في ذلك اليوم ولو حتى نسبيا في مواجهة جرائم الابادة الجارية حتى لا يُفرض علينا ما لا نقبل به ، أو على الأقل منع الأحتلال من تحقيق كافة أهدافه وتحديدا التهجير القسري الان .
ان ذلك الاختراق المفاجئ على اثر العملية العسكرية الفدائية امراً لم تعتاد عليه دولة الأحتلال في حروبها السابقة من حيث ما أحدثته من عدم توازن سياسي وعسكري بالنظام الحاكم في دولة الأحتلال، بل وفي مكونات المجتمع اليهودي الإسرائيلي الذي بدى عليه زيادة التشظي الذي ابتدأ منذ عام . كما وبحجم رد الفعل الإسرائيلي الذي لم يكن يتطلب تلك الشراكة الواضحة مع الولايات المتحدة والذي ما زال يتسم بجريمة الإبادة الجماعية وتداعياتها بحق شعبنا وحتى شعوب المنطقة وأمنها وسِلمِها واستقرارها ، لو لم يكن ٧ أكتوبر قد أحدث خللا في مخططات المنطقة التي يتم ترتيبها بين تل أبيب والبيت الأبيض.
ولذلك كان علينا منذ البداية رفض اللقاءات التي كانت تحاول استبدال الحلول السياسية بحلول اقتصادية أو أمنية وفق تلك المخططات في محاولة تغيب البعد السياسي الحقوقي للقضية الفلسطينية وسعي البعض نحو سلام اقتصادي إقليمي دون حل القضية الفلسطينية اعتماد على حقوق شعبنا غير القابلة للتصرف ، وهي محاولات لا زالت الولايات المتحدة تحاول جر المنطقة اليها وفق رؤيتها بمدخلات جديدة .
والآن وقد وصلنا إلى ما وصلنا اليه ، ولهذا حديث اخر ، كما وللأسئلة التي تُطرح هنا وهنالك بخصوص ما رافق عملية هجوم ٧ أكتوبر من حيث حسابات الإستعداد و القيمة المضافة لها بالمقارنة مع حجم الخسائر الفادحة بالارواح والبنى التحتية كاملة من خلال تلك الجرائم المرتكبة غير المسبوقة ، الا ان صمود المقاومة قد حقق حتى اللحظة نجاحات ومفاجئات عديدة ، أسقطت ادعاءات القدرة الفائقة للأحتلال عن تدمير حق ومفهوم المقاومة أو اجتثاثها لأي قوة سياسية تكتسب عمقا شعبيا . وتجربة محاولة انهاء منظمة التحرير وفصائلها والقضاء عليها في لبنان عام ٨٢ ما زالت ماثلة أمامنا .
الا ان إسرائيل عبر تاريخها لم تتنظر اي ذريعة لتنفيذ اي من جرائمها بحق شعبنا . فحتى عند نشؤ المنظمات والعصابات الصهيونية ما قبل جريمة النكبة ومع بداية موجات الهجرة الاستيطانية التي سهلها الغرب الاستعماري لهم بما فية ألمانيا النازية انذاك عبر اتفاقية هاعافارا ، لم تنتظر ذريعة لارتكاب المجازر والتطهير العرقي ، واليوم لم تكن دولة الأحتلال لتنتظر ذريعة جديدة لتقوم بكل ما تقوم به من أشكال عدوان الأبادة بحق البشر والحجر في غزة الذي لم يسبق له مثيلا بالتاريخ المعاصر .
كما أن شارون لم ينتظر ذريعة حين اقدم على اجتياح جنوب لبنان ومحاصرة بيروت لمدة ٨٨ يوما تحت القصف المجنون وارتكاب المجازر . وأن ما قامت وتقوم به دولة الأحتلال ليس فقط منذ احتلالها لما تبقى من الأراضي الفلسطينية عام ٦٧ ، بل ومنذ اكثر من ٧٥ عاما ، كان بهدف تحقيق الفكر الصهيوني وتصفية القضية الفلسطينية ومكونات هويتنا الوطنية ووجودنا فوق ترابنا الوطني ، عبر أشكال مختلفة من القهر والاضطهاد التي مارستها كل حكومات إسرائيل المتعاقبة دون فرق بين توجهاتها العلمانية أو الدينية ، دون ذريعة ودون محاسبة من أحد الأمر الذي شجعها على الاستمرار بذلك حتى اليوم .
نقطة التحول تلك كانت رد فعل طبيعي على مسلسل طويل متراكم من الحصار والعدوان على شعبنا بالقطاع منذ عقود بل وبكل فلسطين وتدني اولويات الاهتمام الدولي حول مفاصل قضيتنا . حيث اتسمت كل الفترة الماضية على محاولات قهر شعبنا ايضا في مناطق الضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس ، بل وحتى بالمدن والقرى الفلسطينية بداخل إسرائيل من خلال قانون القومية اليهودية والقتل اليومي والاغتيال من مسافة الصفر دون وجود أدنى أشكال من المقاومة حتى ، وتوسيع الاستيطان واقتحامات المدن والقرى والمخيمات وحصارها وتنفيذ سياسات الابرتهايد .
أن ما يجري اليوم في كل فلسطين يستهدف وجود وصمود شعبنا الفلسطيني بكافة مكوناته فوق ترابه الوطني وحقة بالمقاومة الذي يسعى من أجل تقرير مصيره وإقامة دولته ذات السيادة وحل قضية اللاجئين وصولا إلى الحرية والعدالة التي فقط ما تُحقق السلام والأمن والاستقرار للجميع .
إسرائيل اليوم وبالشراكة مع الإدارة الأمريكية الكاملة التي تريد استمرار حرب الابادة برفضها امس مشروع قرار وقف اطلاق النار في مجلس الأمن ، والتي هي نفسها قامت بالأصل ايضا على جرائم التطهير العرقي والتفسيرات الأنجيلية المتجددة التي تتفق مع الرؤية التوراتية . هذا التماهي بينهما هو ما يفسر الان تنفيذهما المشترك للمرحلة الثالثة من المشروع الصهيوني منذ جريمة النكبة الذي يهدف الى إقامة إسرائيل الكبرى الممتدة من البحر للنهر وبما شمل ربما مناطق أوسع من ذلك وهو ما يتوقف على مدى تنفيذ الرؤية الاستراتيجية للولايات المتحدة بالشرق الأوسط والتي بات يحكمها اليهود الصهيونين والمسيحين الصهيونين هنالك وبتأييد من انظمة دول إسلامية يحكمها الفكر الصهيوني بمعناه السياسي الواسع والتي لا مصلحة لها باقامة الدولة الفلسطينية المستقلة . تلك الأنظمة التي ساهمت في إلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام ١٩٩١ والقاضي بمساواة الصهيونية بالعنصرية واعادت علاقاتها مع دولة الاحتلال ما قبل ذلك بسنوات بل وشَرَع عدد منها باتفاقيات التطبيع على حساب قضية شعبنا وهي وغيرها تقف اليوم عاجزة عن فعل شيئ لوقف المخطط الجاري .
ما يجري في هذه المرحلة اليوم يعبر عن شكل ومحتوى جديد لمشاريع تصفية القضية الوطنية لشعبنا الفلسطيني التي كانت مطروحة ومتدوالة عبر عقود مضت وبتخطيط امريكي التي تعتمد على الترحيل والتهجير القسري لشعبنا وتحديدا بقطاع غزة من خلال ما يجري من إبادة جماعية وبالضفة من خلال اعتداءات قوات الاحتلال اليومية وقطعان المستوطنين الذين باتوا يشكلون حوالي ٢٣% من التعداد السكاني بالضفة الغربية وحوالي ٦٠% من سكان حدود مدينة القدس ، بعد استمرار تنفيذ خطط توسيع الاستيطان الجارية حتى اليوم بتسهيلات امريكية والتي تشكل جوهر الفكر الصهيوني الأحلالي الكولنيالي .
ولذلك فأن الأهداف المعلنة من جانب إسرائيل قد تكون باهته أمام الهدف الرئيسي من التدمير والقهر الممنهج والممتد باستخدام اساليب فاشية من منع الكهرباء والوقود والطعام والماء والدواء وصولا إلى التهجير الذي يحاولون فرضه " كشكل طوعي" حتى لا يتعارض مع الرغبات الأمريكية المزعومة في رفض شكله القسري ، لكنه بالطبع قسرياً في جوهره وفق المخطط الجاري والقائم البحث بخصوصه منذ سبعينات القرن الماضي .
وهي اليوم أي الولايات المتحدة اَخذه في بيع العالم وهماً حول حل الدولتين الذي تردده الان ، والتي لم تسعى هي الى تنفيذه منذ أن أصبح ذلك مطلبا دوليا بل عملت على اعاقته وادارة الصراع دون حله ، وذلك بهدف قطع الطريق عن أي جهد دولي اخر لمحاولة تنفيذه ، إضافة إلى منع اية محاولات جادة اليوم لوقف العدوان( وقف اطلاق النار ) الذي يحظى بدعم اعضاء مجلس الأمن دون قوتي الاستعمار القديم والحديث بريطانيا والولايات المتحدة .
حتى الآن فشلت دولة الاحتلال من تحقيق الأهداف "المعلنة" ، سوى إلحاق الموت بابناء شعبنا . والآن فانها تتعرض لضغوطات داخلية محلية من أجل ضرورة استعادة الأسرى المحتجزين لدى المقاومة وبسط سيطرتها كما أعلنت من اهداف ، ودولية تم التعبير عنها بالمظاهرات المليونية والدعوات للمقاطعة في عواصم العالم بما فيها بالولايات المتحدة والتي بات حزبها الديمقراطي يتعرض لانقسامات كما والمواقف المعادية للعدوان من المنظمات اليهودية هنالك ، من اجل وقف الابادة وكذلك تحديد شكل العلاقات مع إسرائيل وموضوع بيع الأسلحة لها من جانب تلك الدول ، فهي تستعد بقوات احتلالها لمرحلة جديدة من العدوان حيث ستعمل على زيادة قوة النيران والبطش من أجل تنفيذ ما ذكرته من موضوع التهجير إلى سيناء ، وتترك الأشقاء في مصر رغم رفضهم لذلك امام واقع معقد قد يصعب التعاطي معه ، كما بالحالة مع الأشقاء بالأردن الذين رفضوا ذلك ايضا .
ويبدو أن إسرائيل اليوم ونتيجة للشراكة وللتدخل الأمريكي الذي حال دون توسع هذه الحرب بالمنطقة حتى الان عبر سياسات التهديد والترغيب لقوى اقليمية ، قد خرجت من نطاق الحماية الأمريكية ودخلت كما يقال بالعامية لبيت الطاعة الأمريكي ، والتي تسعى من زوايا رؤيتها والمؤثرات الصهيونية فيها وعليها وخاصة من "الايباك" أن تنقذ إسرائيل من نفسها ، حتى تتمكن من تحديد مسار ترتيباتها بالشرق الأوسط في مواجهة قوى الصين وروسيا التي باتت تمتلك علاقات واسعة مع دول عربية ولها مصالحها من جهة ، ومن أجل مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية والامنية من جهة اخرى واستمرار فرض تطويع عدد من الدول تحت وهم امتلاكها الحلول كافة . وذلك بعد أن بدأت تفقد عدد من حلفائها باعتمادها نظرياتها القاضية بفرض السلام بالعالم وفق القوة والحروب .
وبسبب انشغال روسيا اليوم بالنزاع المفروض عليها من الغرب في أوكرانيا ، وكذلك التحشيد الجاري بالقوقاز من جانب الولايات المتحدة لاثارة بؤر نزاعات جديدة ، فإن الصين قد تكون راغبة في أن تلعب دورا في منطقتنا بدعم روسي ، حيث لا مصلحة لها في اتساع رقعة النزاع والحرب خاصة وأن معظم حركة الصين التجارية تمر عبر باب المندب إلى أوروبا الا اذا كانت هي ترغب في توريط الأمريكان اكثر في وحل المنطقة ومقاومتها . والصين كما روسيا تمتلكان علاقات جيدة مع كل أطراف النزاع نسبيا كما أنها لم تُقدم على خطوة إدانة المقاومة في غزة ، واعتبرت العدوان الاسرائيلي بمثابة جرائم حرب بعيدا عن مقولة ادعاء الدفاع عن النفس كما ويدعون إلى وقف العدوان وتنفيذ القرارات الدولية والقانون الدولي .
لذلك فإن إسرائيل الان ستدفع وترمي بكل قوتها كسبا للوقت الذي سيعتبر في غير صالحها الذي قد يكون محدداً لعملياتها ، من أجل أن تتخلى المقاومة عن احد اهدافها بتبيض سجون الأحتلال أو أن تعلن استسلامها وفق ظنون اسرائيل ، وذلك قبل أن يصبح هنالك احتمالا لتوسيع الحرب بالاقليم ومن أجل التقليل من خسائرها البشرية والمالية والاقتصادية الاَخذة بالارتفاع الملحوظ وانعكاساتها بالمجتمع الإسرائيلي وما تعاني منه الان من جانب معظم شعوب العالم من عدم قبول لها بل والدعوات إلى مقاطعتها .
ومن جهة اخرى حتى تتهرب من إمكانية اي ضغط بخصوص فكرة الحل السياسي الشامل وهو امر يخدم سياسات الولايات المتحدة ايضا بعد التغير الحاصل في بعض المواقف الأوروبية في ابتعادها ولو بسيطا عن الرؤية الامريكية أمام هذه المعركة والعدوان المفتوح بالضفة الغربية ايضا بما فيها القدس .
كما ومن أجل التقليل ايضا من تداعيات اليوم التالي ليس في غزة ، بل في إسرائيل والولايات المتحدة أمام المحاسبة في ظل الخلافات عن تحمل المسوؤلية لديهم ومحاكم نتنياهو وانخفاض شعبيته وميزانه الانتخابي ، وامام استحقاق الانتخابات الرئاسية بالولايات المتحدة وما يعاني منه بايدن الذي يسعى وحزبه للفوز .
لذلك فان فلسطين اليوم وتحديدا بما يجري في غزة ستفجر متغيرات بالعديد من عواصم العالم الذي بات مقتنعا اليوم اكثر من أي وقت مضى بما يشبه الاجماع على ضرورة وجود مسار سياسي والحاجة إلى آليات واضحة بسقف زمني لتنفيذ حقوق شعبنا سندا لوحدة الأراضي الفلسطينية السياسية والجغرافية ، ما يُبقي الدور علينا نحن من اجل توحيد الصوت والعمل والصفوف لكل مكونات شعبنا كي نجتاز هذه المرحلة الصعبة من استهداف قضيتنا الوطنية السياسية ومتمكن من مواجهة السراب الامريكي المتجدد .