وَمَضَات نَقْدِيَّةٍ مِنْ سِيسِيولْوجِيا حَالَةَ اَلْحَرْبِ
مُنْذُ مِائَةِ يَوْمٍ إِلَّا قَلِيلاً، تواصل إسرائيل شنّ عدوانها على قطاع غزة، يرافقها تضييق وحصار وتقطيع أوصال الضفة الغربية، واقتحامات يومية، إضافة إلى اغلاق المناطق المحتلة عام 1948 أمام الفلسطينيين، وما رافقها من انكماش للدورة الاقتصادية، وضيق في العيش، وأخبار يومية مؤلمة عن المجازر بحق أهلنا في قطاع غزة، وما أفرزته حالة الحرب والعدوان من ضغط اقتصادي واجتماعي ونفسي، يعاني منه الشعب الفلسطيني عامّة.
وفي حالة الحرب، من المعلوم بداهةً، ارتفاع منسوب التضامن والتكافل الاجتماعي، وتقاسم الكلّ الفلسطيني "لقمة العيش والهمّ معاً"، وتعزيز أواصر التكاتف الاجتماعي، وسيادة الشعور الجمعي على الفردانية، وربما سنوات الانتفاضة الأولى كانت أنموذجاً على حالة التكاتف والتعاضد المجتمعي، رغم الظروف الصعبة التي مر بها الشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من المشهد الجميل المختزن بالذاكرة، ألا أنه ظهرت عدة افرازات سلبية في المجتمع الفلسطيني في حالة الحرب الراهنة، بحاجة الى تأمّل ونقد من أجل الأفضل.
اَلْإِشَاعَة،
رغم نسبة التعليم المرتفعة، وكمّ الوعي لدى الشعب الفلسطيني، إلا أنّ الاشاعة، والأخبار الكاذبة، لعبت دورها في المجتمع الفلسطيني خلال الحرب، ومنها ما كان عبثياً، ومنها ما كان موجّهاً، ومما ساهم في انتشارها، سطوة منصات التواصل الاجتماعي على حياتنا العامّة والخاصّة، واستحواذها على حيّز من الوعي الجمعي، ودورها في تشكيل الرأي العام، وأضحت منصات التواصل الاجتماعي دفيئة مثالية لتكاثر ونشر الشائعات بسرعة الضوء، خاصة مع سهولة النقل والتداول، والاضافات لمن شاء، وتوظيف مخرجات الذكاء الاصطناعي لخدمتها، وعززّ انتشارها مجموعات التواصل الاجتماعي المغلقة، والتي لا تخضع لتدقيق، أو رأي من خارج تلك المجموعات، بحيث اختلط الأمر ما بين الخبر الصادق والكاذب، وما بين الحقيقة والوهم، وأضحى هناك استسهالاً جمعياً لتقبل الإشاعة، أو حتى نقلها دون إعمال العقل فيها، أو التفكير النقدي، أو التحقق منها.
سَطْوَة اَلسِّيَاسَاتِ اَلنِّيُولِيبِرَالِيَّةِ فِي اَلْمُجْتَمَعِ اَلْفِلَسْطِينِيِّ
على الرغم من كون المجتمع الفلسطيني مجتمع "تَكَافُلِيٌ بِالطَّبْعِ"، إلا أنّ حالة الحرب الحالية، أظهرت بشكل جلِيّ سَطْوَة اَلسِّيَاسَاتِ اَلنِّيُولِيبِرَالِيَّةِ فِي اَلْمُجْتَمَعِ اَلْفِلَسْطِينِيِّ، ويشير مفهوم «النيوليبرالية» إلى تبني سياسات اقتصادية تقلصّ من دور الدولة، وترفع من دور القطاع الخاص قدر المستطاع، وتسعى «النيوليبرالية» لتحويل السيطرة على الاقتصاد من الحكومة إلى القطاع الخاص، وسيادة السياسات الرأسمالية المطلقة، وتأييد اقتصاد عدم التدخل الحكومي، والسماح بأقصى حرية ممكنة في السوق.
وللخروج من طور المفهوم النظري المجرد إلى التطبيق، فإن سياسات بعض شركات القطاع الخاص الكبرى المزودة للخدمات الأساسية، بقطع تلك الخدمات "الأساسية" عن المواطنين بسبب عدم قدرتهم على دفع أثمان تلك الخدمة بسبب فقدانهم لأعمالهم، أو عدم انتظام رواتبهم، مثال صارخ على إحلال السياسات «النيوليبرالية»، بدلاً من سياسات التكافل الاجتماعي والتعاضد وقت الأزمات، الأمر الذي ضرب مفهوم العدالة الاجتماعية، وعمّق الرتق ما بين الطبقات الثرية والفقيرة، ويعمل على ذوبان الطبقة الوسطى وانزلاقها تجاه الفقيرة، خاصة وأن حوالي (205) ألف عامل فقدوا عملهم داخل الخط الأخضر والمستوطنات، وحالي (150) ألف موظف حكومي لم تنتظم رواتبهم، إضافة إلى مئات آلاف التجار والعمال المحليين، والعاملين في مجال النقل والخدمات وغيرهم، ممن تتضرروا بشكل مباشر من تبعات الحرب، ولم تقتصر تلك التوجهات على شركات القطاع الخاص، بل انزلقت إلى ذلك على سبيل المثال لا الحصر، هيئات محلية، ومؤسسات تعليم عالي، حيث حمّلت جامعات فلسطينية الطلبة رسوم (انترنت) و(تأمين صحي) وغيرها، رغم تحوّل تعليمهم إلى الكتروني، وربما الفصل الثاني كذلك، الأمر الذي يعني جباية ملايين الدنانير من الطلبة، دون خدمة فعلية مقابلة، خاصة وأنّ عدد الطلبة الملتحقين في مؤسسات التعليم العالي الفلسطينية يربو على (225) الف طالب وطالبة، تبعاً لبينات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
اَلْأُلْفَة اَلْغَافِلَةِ،
وهي ألفة مشاهد القتل والتدمير في قطاع غزة، حتى أدخلتنا في غفلة عن الحدث، وبشاعته، وأضحت المجازر اليومية كأنها روتين حياة، وكأن زخم المشاهد المروّعة في بداية الحرب، خلقت تبلداً في المشاعر، وقننت التفاعلات المجتمعية مع الأحداث.
وفي ضوء الومضات السيسيولوجية أعلاه، لا بُدّ من وقفة تأمّل، والعمل من خلال المستويات كافّة: الحكومية، الأهلية والشعبية، النخب الفكرية والثقافية، النقابات والاتحادات، والمواطنين أنفسهم، على إعادة ضبط التوجهات الاجتماعية والاقتصادية الاصيلة للشعب الفلسطيني، وتعزيز التكافل والتعاضد المجتمعي، وإعمال العقل والفكر في سياقات الحياة المختلفة، فتمتين الجبهة الداخلية، لا يقل أهمية عن الجبهات الخارجية.