قراءة في عتبة الجنون
أطلق صديقي صائد الأسماك الذي أستطيع وصفه بأنه آخر شعراء الصعاليك وامتداد لكل من الشنفرى، السليك بن سلكة، عروة بن الورد، تأبط شراً؛ روايته أو رواياته باسم (عتبة الجنون) ليحدثنا عن تمرده على القبيلة، والعادات والتقاليد، ومواجهته الجوع والعطش، وصبره على الألم، وتحديه للاستعمار، والأهم عن عشقه لحياة الذئاب بعاطفته الإنسانية التي أصبحنا نفتقدها.
العُمدة، الشاعر، الطّباخ، الصياد، الروائي، المناضل، الكاتب، الحكواتي، المتمرد، المتواضع، المطارد، العاشق، الأسير، العطّار، الذئب ماجد أبو غوش يحدثنا بهذه العتبة عن الجنون عاكساً حياته وحياة آخرين؛ من خلال كتاباته عن تجارب ووقائع عاشها.
وهذا ليس غريباً عن خصائص كتابات ماجد الشعرية والنثرية، فهو المثقف المتحدث عن حياتنا الفلسطينية القاسية من الخيمة الى العراء وحياة المطاردين والمتعرضين لشتى أنواع الخطر، ولهذا عكس ماجد برواياته طبيعة الطبيعة التي كانت تحيطه بلغة سهلة بالرغم من مرارة وصعوبة الحياة التي عاشها، ليكتب بألفاظ ومواضيع وقصص تخطت التسلسل الزمني، ما جعلها سردية، لتجعل من "عتبة الجنون" روايات تنطلق من القلب وليس من لسان أبطال رواياته للحديث عن حياتهم التي كانوا يعيشونها وعن شخصيتهم ونفسياتهم.
"عتبة الجنون" عبارة عن مرآة تعكس الحالة الشعورية النفسية التي طغت في زمان ومكان متداخل بعضه مع بعض ليشكل حياة ما زالت مستمرة حتى بعد نهاية النص "افتحي له الباب" وكأن أبو غوش يقول انتظروا العتبة القادمة، فقد ترك النهاية بداية على الرغم من التسارع الزمني لحياة الفلسطيني في عالم المجهول.
وهنا أتذكر ما قاله الروائي الفرنسي (أونوريه دي بلزاك) الى حبيبته إيفيلينا عام 1836م في إحدى رسائله "أعتقد أنّني أقف على عتبة الجنون بك فما عدت قادرًا على الإتيان بفكرتين لا تقفين بينهما". ومن يعرف ماجد أبو غوش على أرض الواقع يعلم بأنه لا يبوح بمكنون صدره إلا لأصدقائه المخلصين أو للمرأة التي يحبها، ربما كان يبوح للقارئ بأسرار؛ لكن أنا مؤمن بأن هناك العديد من النصوص لم يستطِع ان يقولها في داخل هذه الروايات لأسباب أجهلها، لكنني سأتناقش بها معه لاحقاً؟!
هذه الرواية/ الروايات من الناحية الفنية خروج جذري عن نمطية البنية للرواية العربية بالمفهوم الكلاسيكي، حيث أن النصوص معظمها مقطوعات قصيرة وليس رواية كاملة، واستغنى في نصوصه البسيطة عن التعقيد، حيث تحل الحوارات المُبسطة المحكية المُصورة بتصوير حياته وما يمر به أبطال رواياته من تفاعلات وتجاذبات، إلا أن الكاتب وأبطاله اهتموا بقضاياهم من خلال رصد واقعهم ليعبروا عن همومهم ومشاكلهم وينقلون ثورتهم النفسية العارمة بسبب الظلم الاجتماعي..السياسي..الاقتصادي وبالتأكيد الاستعماري.
وهكذا كان نعمان/غسان/ماجد/الذئب يعيش في شرذمة الزمن والمكان، وكونوا لأنفسهم مجتمعا موازيا بقوانين خاصة بهم، ساعدهم عليها اتساع الرؤية، ووعورة مسالكهم التي اتخذوها مسكنًا وملجأً، وفوق ذلك وجود الظلم بكل أنواعه، فكان تمردهم مقاومة وغصباً.
أعتقد أن الأمر لا يتعلق باكتشاف ما بالعقل من جنون، فعند أبو غوش لا بد من إدراك ما بالجنون من عقل أيضاً!! وهذا ما وجدته داخل بساطة النص من غموض، والمواجهة بين الحكمة والجنون، أنه كان على الجنون أن يلعب في مجاله الدور نفسه الذي تلعبه الفوضى في حياة الذئب؛ أي الدور الرئيسي في كل مغامرة وابتكار وإبداع وشهوة وجموح.....
إن الجنون هو الأصل، كما قال نيتشه الذي قال أيضاً: "في كل مكان تقريباً الجنون هو الذي مهّد الطريق للفكرة الجديدة، وتخلّص من العادة ومن الخرافة المبجلة". وكان أفلاطون قد قال من قبل: "إن الجنون هو ما جلب كل المنافع على اليونان". أما ماجد أبو غوش قال "والذئاب عادة تتربع على قمة هذه العتبة، عتبة الجنون، فالذئاب حرة".