من المخاض إلى الميلاد... الحركة الأسيرة الفلسطينية تنتصر بالأدب
“من يأخذ بقية عمري ويعطيني لحظة عناق واحدة مع ابنتي ميلاد؟!”، كانت آخر أمنية للشهيد الأسير وليد دقة نتيجة سياسات الاحتلال وممارساته السادية تجاه الأسرى ومحاولات اغتيال ذاكرتهم و حياتهم، ويُعد دقة من أبرز الأسرى المنظرين لأدب السجون، حيث صدرت له عدة مؤلفات، أبرزها "صهر الوعي" و"الزمن الموازي" ورواية "حكاية سرّ الزيت"، التي نالت جوائز محلية وعربية، ويعبر وليد دقة عن علاقته الحميمية بالكتابة من داخل الأسر فيقول: "هي نفقي الذي أحفره تحت أسواري حتى أبقى على صلة مع الحياة، حياة الناس وهموم شعبنا وأمتنا العربية، وهذا لا يعني أن الكتابة انفصال عن واقعي داخل الأسر".
يدرك الاحتلال الإسرائيلي بشكل حتمي أهمية الأدب والثقافة والفكر في تشكيل الوعي الجمعي والجماهيري للشعوب كافة، والتأثير القوي الذي يمكن له أن يقلب الطاولة على رأس الاحتلال في الترويج للرواية الصهيونية عالمياً أو حتى إقليماً، ومن يتتبع تاريخ أدب السجون الفلسطيني منذ البدايات يمكن له قراءة التاريخ الدموي والسياسات الصهيونية تجاه الأسرى، بدايةً بكتابات الأسرى عن المعاناة والتعذيب داخل العزل أو التحقيق، التي يمكن تتبعها من خلال كتاباتهم عن طريق رواياتهم و مذكراتهم ومحاولاتهم الدائمة لتوثيق التجربة الاعتقالية المريرة انتهاءً بأدبهم ورسالتهم الحرة الى المحافل الأدبية.
إن الواقعية الأدبية التي يكتب بها الأسرى ما هي إلا ماهية الواقع الذي يعيش فيه الأسير الفلسطيني، ومع استمرار تطور أدب السجون الفلسطيني وتأثيره في الوعي الثقافي والسياسي، شنت حملات متعددة لقمع وتقييد أدب السجون ومحاربة صوت الأسرى الفلسطينيين إذ يتعرض الأسرى الفلسطينيين داخل السجون إلى أوضاع مأساوية ويعانون من أشد أنواع العقاب الجماعي بالإضافة الى حرمانهم من أبسط الحقوق خاصة بعد السابع من أكتوبر - لا نحتاج إلى الإثبات حول هذه المسألة فالمشاهد التي تعرض بشكل دائم لصور الأسرى قبل وبعد الاعتقال كافية جداً لوصف المشهد بدون الاستشهاد بأي إثباتات أخرى - ولكن برغم كل ذلك يستمر أدب السجون بالتطور والخروج للنور برغم كل المحاولات لإجهاضه وقمعه من خلال مصادرة الأدوات الكتابية أو المذكرات، بالإضافة إلى تقييد الاتصال بين الأسرى وحظر ممارسة النشاط الثقافي، كما يعتمد الاحتلال على التعذيب والمعاملة القاسية للأسرى الذين يشاركون في نشاطات ثقافية أو يقومون بكتابة أعمال أدبية وصولاً إلى محاولات الاغتيال المتكررة للمثقفين والكتاب وآخرها استشهاد الكاتب الأسير وليد الدقة نتيجة الإهمال الطبي في السجن، ومع ذلك، فإن محاولات القمع لم تثنِ الأسرى الفلسطينيين عن التعبير الثقافي والأدبي. بل على العكس، زادت هذه المحاولات إصرارهم في التعبير عن هويتهم ومعاناتهم من خلال أعمالهم الأدبية الكثيرة التي ولدت من رحم الاعتقال لتعكس قساوة تجربتهم من وراء القضبان .
رواية " قناع بلون السماء" للأسير الفلسطيني باسم خندقجي
يعتبر فوز رواية "قناع بلون السماء" للأسير الفلسطيني باسم خندقجي و المحكوم بالسجن مدى الحياة بجائزة البوكر للأدب العربي في ظل حرب الإبادة المستمرة منذ أكثر من سبعة أشهر انتصاراً من نوع آخر للحركة الأسيرة الفلسطينية في مجال الأدب، إن هذا الفوز ليس فقط اعترافاً بقيمة الأعمال الأدبية التي تولد من داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي وتجارب الأسرى، بل هو أيضاً تأكيداً على أن الكفاح و النضال الفلسطيني ليس فقط يأتي من الساحة السياسية و الميدانية بل يتعداها لساحات الثقافة و الأدب.
باسم خندقجي، الذي كتب روايته داخل السجون الإسرائيلية في عملية مخاض صعبة لهذه الرواية و تهريبها إلى خارج القضبان يمثل رمزاً للصمود والإرادة وتحولاً مفصلياً في تاريخ الأدب العربي بشكل عام، و أدب السجون بشكل خاص، حيث يعتبر أول أسير فلسطيني يحصل على جائزة البوكر للأدب العربي، مما يحيلنا للتفكير جدياً بتأثير الصوت الفلسطيني في المشهد الأدبي العربي، ولتؤكد على أن الثقافة و الإبداع لا تستلزم الحرية الجسدية، وإنما يمكن لها أن تتجاوز الحدود الجغرافية و السياسية لتصل إلى قلوب و عقول القراء من وراء القضبان إلى جميع أنحاء العالم، ولتقول بشكل واضح ومسموع أن الحرية تتجسد في الروح و العقل وأن اعتقال الجسد وسلب الحرية ليس إلا كذبة يعيشها و يصدقها السجان وحده، أما الأسير فعقله و كلمته حرة دائما و ابداً.
تأتي أهمية حصول رواية " قناع بلون السماء"، في هذا المرحلة الحاسمة من التحول التاريخي للقضية الفلسطينية على وجه التحديد، انعكاساً للإشادة العالمية و العربية للرواية و الأدب الفلسطيني بقيمته الأدبية و قوة رسالتها، ولكن الأهم من ذلك كله هو التأكيد على وجود صوت فلسطيني متجذر و حيوي و مستمر في المشهد الأدبي العربي، في لحظة يعاني فيها الشعب الفلسطيني من حرب إبادة ليست إبادة بمعنى الانسان فقط، بل محاولة إبادة التاريخ و الثقافة و الرواية الفلسطينية، ليخلق الفلسطيني مرة أخرى من رحم المعاناة و ينجو من إجهاض الفكرة إلى ولادتها.
في الختام، إن أدب السجون الفلسطيني يمثل قصة صمود الرواية الفلسطينية و ازدهار الأدب رغم الظروف القاسية و المعاناة التي يتعرض لها الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، و يجسد فكرة أن الكلمة الحرة لا تقهر، وأن إرث أدب السجون يكتب دائما برغم كل الصعوبات، وفي هذا السياق لا يمكن إلا أن نستذكر أن الشهيد الكاتب وليد الدقة ومن مثله، هم رموزا للتضحية والمقاومة التي لن تنسى وستظل ملهمة للأجيال القادمة في مواصلة النضال من أجل الحرية و الكرامة و العدالة.
إن دعمنا و تضامننا مع الأسرى و قضيتهم العادلة يعبر عن استمرارنا في رفع أصواتنا ضد الظلم و الاضطهاد، فلنستمع بتأمل إلى أصوات الأسرى ولننقل قصصهم و رواياتها، ولنتحد في دعم قضيتهم ونضالهم حتى يحين اليوم الذي يتحقق فيه الحلم الفلسطيني بالحرية.