تطبيع الرياض واقتحام رفح ودولة غزة كبديل عن حل الدولتين
كنت أتمنى أن أشاطر المتفائلين بقرب التوصل لصفقة تُوقف حرب الإبادة وعملية اقتحام رفح ولكن ما عهدناه من العدو من عدم احترام العهود والالتزامات التي يوقعها مع الفلسطينيين كما جرى في اتفاقات السلام مع منظمة التحرير ومع اتفاقيات الهدنة مع حماس أيضا تعقيدات المشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي يجعلني أشك بكل ما يجري وتتخوف من أن كل ما يتم الحديث عنه في المبادرة المصرية يخفي تخوفات جادة من مصيبة قادمة.
فكلما تزايدت حملات الإدانة والتنديد بحرب الإبادة على غزة وحدة خطابات التحذير من مصر ودول العالم من اقتحام رفح وتداعياته الخطيرة، وكلما تكثف اللقاءات والمفاوضات الرسمية عربياً ودولياً لمنع اقتحام رفح والتوصل لصفقة بين حماس وإسرائيل والبحث في مستقبل غزة بعد الحرب الأمر الذي يتساوق مع الرواية الإسرائيلية بأنها حرب على غزة وحماس وليس على الشعب وكل القضية الوطنية، ومع غياب كلي لمنظمة التحرير والسلطة عن المشهد، ومع إقحام الحديث عن تطبيع السعودية وإسرائيل كجزء من صفقة التهدئة أو وقف الحرب متزامنا مع تكيف الحديث عن حل الدولتين ... فإن تخوفات تنتابنا بأن كل هذا يندرج في سياق رفع العتب ومحاولة التهرب من المسؤولية عن مصيبة وجريمة كبيرة ستقوم بها إسرائيل تتوِج بها مخططها الذي هيأت له حتى قبل ٧ أكتوبر، وكل الأطراف المحتجة و المتباكية والمحذرة تعرف الحقيقة ولكنها تريد توصيل رسالة بأنها قامت بما تستطيع ولكنها لم تستطيع منع إسرائيل من تنفيذ مخططها.
وكما كتبنا سابقاً فإن الهدف الاستراتيجي من الحرب ليس كل ما روجت له دولة الكيان الإرهابي العنصري من أكاذيب خلال الحرب كالزعم أنها حرب على حماس وغزة، بل تنفيذ مخطط استراتيجي تم الإعداد له منذ سنوات لتصفية القضية الفلسطينية وهو مخطط تعزز مع تشكيلة الحكومة اليمينية المتطرفة التي يقودها نتنياهو وبانت بعض ملامحه في خطة (الحسم) التي وضعها المتطرف سموترتش عام 2017 وبدأ بتنفيذها في الضفة والقدس ثم جاءت أحداث 7 أكتوبر 2023 لتستغلها إسرائيل لتنقل خطة الحسم إلى قطاع غزة من خلال تنفيذ مخطط دولة غزة، الذي بدأ تنفيذه عمليا عام 2005 عندما سحب شارون جيشه من وسط القطاع، وتهجير أكبر عدد من سكان غزة تجاه سيناء أو عبر البحر وفرض دولة غزة الموسعة باتجاه سيناء كما جاء في مخطط الجنرال الإسرائيلي غيورا إيلاند عام 2005 الذي شغل منصب رئيس قسم التخطيط في الجيش الإسرائيلي ورئيس مجلس الأمن القومي وقد كتبنا وحذرنا منه منذ سنوات والمخطط النهائي يهدف لتصفية السلطة والحالة الوطنية في الضفة ونقل مقر السلطة لغزة أو تشكيل سلطة بديلة.
قد يقول البعض إن سكان غزة يرفضون التهجير ويتمسكون ببيوتهم وأرضهم حتى وهي مدمرة، وقد يقول آخرون وكيف يستقيم هذا التحليل مع تزايد الحديث عن حل الدولتين؟
بالنسبة لرفض سكان قطاع غزة مخطط التهجير والتوطين في سيناء أو في دول أخرى، لأهل غزة تاريخ نضالي طويل برفض التهجير ومشاريع التوطين وخصوصا الفترة الممتدة ما بين 1953-1955 عندما طرحته واشنطن لأول مرة واستمروا في رفع راية الوطنية والثورة وحق العودة، ولكن ...يجب استحضار المعاناة التي يعيشها أهالي القطاع وخصوصاً في رفح من جوع وأمراض واستهداف مستمر بقتلهم من جيش الاحتلال، ولو خُير سكان غزة بين التهجير خارج الوطن أو الصمود في القطاع والعودة لبيوتهم المدمرة فسيختارون البقاء في الوطن والعودة لبيوتهم حتى وهي مدمرة ولكن المهم أن تتوقف الحرب ، ولكن في ظل استمرار الحرب فلا يلوم أحد أهالي غزة إن أصبح هدف الحفاظ على الأرواح له الأولوية على أي اعتبارات وطنية سياسية بعيدة المدى وخصوصا أن التهجير سيكون قسريا وتحت أحزمة النيران لجيش الاحتلال التي ستلاحق الناس حتى دخولهم الحدود المصرية أو دفعهم نحو ميناء غزة، أيضاً يجب الاعتراف بأن كثيرا من أهالي غزة يبيعون كل ما يملكون ليدفعوا خمسة آلاف دولار عن كل فرد لينسقوا للخروج من القطاع إلى المجهول، فكيف إن أصبح الخروج بالمجان وهناك مخيمات إيواء مجهزة ومزودة بالكهرباء والمياه في انتظارهم؟ أعتقد أن لسان حالهم يقول بأننا سنعود لبيوتنا وأرضنا بعد وقف الحرب.
أما بالنسبة لعودة الحديث عن حل الدولتين فمن يدقق بالحديث الأمريكي والأوروبي عن حل الدولتين وحتى الصيغة الملتبسة حوله التي يتم تداولها في المنظمات الدولية سيلاحظ أنها تتحدث عن حل الدولتين دون ربط الدولة الفلسطينية بحدود حزيران ٦٧ ولا بالقدس كعاصمة للدولة، وفي ظل الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل والدعم غير المحدود من واشنطن التي نقلت سفارتها من تل ابيب الى القدس وتعارض أي قرار دولي يعترف بالدولة الفلسطينية فلا نتوقع اعتراف إسرائيل بدولة في الضفة وغزة بل يمكن القول حتى لو سقطت حكومة اليمين وجاءت حكومة جديدة فمن غير المتوقع اعترافها بدولة فلسطينية على حدود 67 وعاصمتها القدس الشرقية ولا يوجد أي حزب سياسي إسرائيلي حاليا يقبل بدولة الضفة وغزة وعاصمتها القدس. وبالتالي فإن طرح فكرة حل الدولتين الآن له علاقة بتطبيع الرياض حيث تقول الرياض إنها مستعدة للتطبيع في حالة وجود توجهات للاعتراف بدولة فلسطينية، أيضا مرتبط بمشروع دولة غزة الموسعة تجاه سيناء وهذه ستكون متواصلة ولها ميناء ويمكنها استيعاب ملايين اللاجئين.
وعليه يجب الحذر أن توافق إسرائيل على صفقة مع حركة حماس يتم فيها إطلاق سراح معتقليها عند حماس مقابل إطلاق معتقلين فلسطينيين مع اعادة تموضع قواتها في القطاع ودخول مساعدات وقد تسمح لبعض العائلات بالعودة للشمال وسيتزامن ذلك مع الإعلان عن تطبيع سعودي إسرائيلي وتحريك ملف المفاوضات حول الاعتراف بدولة فلسطينية، ولكن ولأن دولة الكيان عودتنا أنها لا تلتزم بأي عهود فستجد مبررات للتهرب تدريجيا من التزاماتها وتقوم بعملية اقتحام رفح وتهجير أكبر عدد من الفلسطينيين الى سيناء أو عبر البحر، وستقول مصر أنها قامت بما تستطيع وسيواصل العالم تنديده بدولة إسرائيل الارهابية والعدوانية وقد تصدر محكمة الجنايات الدولية مذكره اعتقال بحق قادة الاحتلال يكون مصيرها نفس مصير المذكرة الصادرة بحق الرئيس السوداني السابق عمر البشير في الرابع من مارس 2009، والمذكرة التي صدرت من المحكمة بتوقيف الرئيس الروسي بوتين في مارس 2023 .
في سياق هذا المخطط قد تحتفظ دولة الكيان في المرحلة الأولى من الاتفاق بالشريط الحدودي على طول القطاع وقد يشمل الشريط كل المنطقة الممتدة شمال وادي غزة لتساوم عليها حماس ومصر والمعنيين بالأمر لانتزاع أكبر قدر من الضمانات الأمنية وخصوصاً أن تكون دولة غزة الجديدة منزوعة السلاح وربما تشترط مرابطة قوات عربية ودولية، ونعتقد أن حماس ستقبل بكل ذلك ما دام يضمن بقاءها في السلطة والمشهد السياسي.
الشيء الوحيد الذي يمكن أن يربك مخططات إسرائيل هو المظاهرات الطلابية في الجامعات الأمريكية وامتدادها لجامعات غربية بالإضافة إلى التحولات في الرأي العام العالمي المناصر للقضية الفلسطينية، حيث تخشى إسرائيل من أن تؤدي عملية اقتحام رفح الآن إلى توسيع نطاق هذه المظاهرات والتحولات التي تعتبر هزيمة استراتيجية من الصعب تعويضها لأنها تمس الوعي الحمعي الأمريكي والغربي الذي اشتغلت عليه الحركة الصهيونية لعقود حتى يقبل بالرواية الصهيونية والتوراتية.
كل ما سبق هو ما تسعى له دولة الكيان العنصري بتنسيق أمريكي وربما بعض الدول العربية، مع عدم وضوح الموقف النهائي للطبقة السياسية الفلسطينية الحاكمة في الضفة وغزة، وإن كانت حالة الانقسام والعجز وغياب التنسيق بينها يجعلها ضعيفة في مواجهة مخطط التصفية هذا، ونأمل ألا تكون بعض أطرافها مشاركة في هذا المخطط.
أتمنى أن يكون كل ما سبق مجرد هلوسات سياسية وأن يصدق حديث حركة حماس وفصائل المقاومة بأن العدو يُمنى بالخسارة وعلى وشك الهزيمة وما على الشعب الفلسطيني الا الصبر (وما النصر إلا صبر ساعة) وأن تؤدي التحولات في الرأي العام العالمي وخصوصاً المظاهرات الطلابية في الجامعات الأمريكية والتي تتمدد لبقية جامعات الغرب ويضاف لها المظاهرات في دولة الكيان إلى إنهاء الحرب بدون مزيد من الخسائر للفلسطينيين.