"المبادرة الأميركية" والاستثمار في الإخفاق الإسرائيلي
سواءٌ كانت هذه المبادرة قد جاءت في محصلة تبادل للأفكار، أو تفاهمات ضمنية بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، وسواءٌ كانت في جوهرها هي الأفكار الأميركية أصلاً، والتي تم الاتفاق على طرحها في العلن بعدما وصلت الأمور من وجهة النظر الأميركية إلى استحالة استمرار الحرب على الطريقة الإسرائيلية، وهي طريقة وصلت إلى نهايتها بعد غزو رفح فإن الأهم هو توقيتها، وتوقيتها بالذات هو أهم ما انطوت عليه.
التوقيت بالمعنى الجوهري هو انعكاس للإخفاق الإسرائيلي، وهو انعكاس للأزمة الداخلية في إسرائيل، وفي أميركا، أيضاً.
ليس مصادفة أبداً أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن قد وقّت طرح مبادرته، والتي سماها «المبادرة الإسرائيلية» قبل انتهاء المهلة التي كان بيني غانتس قد حدّدها لبنيامين نتنياهو، وهو موعد الثامن من الشهر الجاري، وذلك ــ وكما كتبنا أكثر من مرّة ــ لأن بايدن لا يريد، ولا يرغب أبداً في إسقاط حكومة الاحتلال، ولكنه قد يكون مع سقوطها وليس إسقاطها، والفرق كبير بين الحالتين.
إسقاط الحكومة بقرار أميركي هو بمثابة «انحياز» أميركي مباشر لـ»المعارضة»، وبمثابة مشاركة أميركية في احتدام الصراع في الشارع الإسرائيلي، وهو شارع هشّ، وقد تخرج الأمور فيه عن السيطرة، وقد تؤدّي الصدامات بين الأطراف المتصارعة إلى هزيمة كارثية على دولة الاحتلال.
آخر شيء تريده أميركا هو أن تصل الأمور إلى هذه النتيجة من ناحية. ومن ناحية أخرى فإنّ اجتياح رفح لم يحسم شيئاً واحداً يمكن أن يقدمه نتنياهو للشارع الإسرائيلي، وهو إن أراد أن يستمرّ في الحرب إلى ما لا نهاية، إرضاءً لأطراف «اليمين» الفاشي فإنّ النتيجة لن تتغيّر، أو لن تُغيّر في نفس النتيجة شيئاً جوهرياً واحداً، باستثناء زيادة عزلة دولة الاحتلال، وزيادة استنزاف جيشها، والمزيد من الأخطار باتجاه توريط أميركا في حرب إقليمية لا تريدها، ولا تقوى عليها، وعملت وما زالت تعمل لتفاديها.
أي أنّ أميركا كانت أمام خيارات كلها صعبة وخطرة، وليس من بينها ما يحفظ لبايدن ماء الوجه مع بدء عدّاد الحملة الانتخابية.
الذي أراه هنا هو أنّ ما طرحه بايدن لم يكن سوى بعض الأفكار التي تمّ تناولها مع القيادات الإسرائيلية، بما فيها القيادات من خارج «الائتلاف»، ومن أوساط متنفّذة في «المعارضة» الإسرائيلية، والذي تم طرحه بصورة «ممسرحة» في الإعلان عن هذه «المبادرة» بهدف «إحراج» نتنياهو من جهة، وبهدف «طمأنته» بأنّ الهدف ليس إسقاط حكومته من جهة أخرى، و»طمأنة» «المعارضة» الإسرائيلية بأنّ أميركا لن تتخلّى عن هذه «المعارضة»، وبهدف امتصاص ما يمكن امتصاصه من غضب العالم بعد المحرقة الأخيرة في رفح، والتي أظهرت درجة عالية من «الغباء» الإسرائيلي، ومن حرق السفن، ومحاولة استعراضية لن تقدّم ولن تؤخّر في نتيجة الحرب الدموية على المستوى التكتيكي المباشر.
أمام نتنياهو عدّة أيّام فقط للموافقة على «المبادرة»، وليس أمامه أكثر من هذه الأيام، لأنّه إن حاول عرقلة الصفقة من جديد تحت أيّ اعتبارات فإنّ أميركا ستكون في حلّ من المحافظة على هذه الحكومة، وستعمل كلّ ما بوسعها من أجل إسقاط الحكومة بأقلّ الخسائر الممكنة.
لا يستطيع نتنياهو إدارة ظهره بالكامل لهذه «المبادرة»، ولا يستطيع الموافقة عليها دون أن يبقي داخل «المبادرة» ما يمكّنه من «التنصّل» منها في مراحلها القادمة، وهو سيراهن على اعتراضات حركة حماس على بعض بنودها، أو آليات تطبيقها، ولكنه الآن فقد القدرة على الادّعاء بأنه سينتصر في هذه الحرب الإجرامية، وأنّه ما زال قادراً على تحقيق الأهداف التي طرحها لهذا العدوان، وفقد القدرة على استغلال الدعم الأميركي في المواقف التي يمكن أن يقدم عليها.
وهو يراهن على مجموعة من «الألغام» التي تتضمّنها المبادرة، وخصوصاً فيما يتعلّق بالآليات «الانتقالية» ما بين المراحل الثلاث تحديداً. وهو ما زال يراهن، أيضاً، على الشارع «اليميني» في دعم الإعاقات التي ينوي العمل عليها في المراحل القادمة من المفاوضات على تلك الفترات الانتقالية.
حتى الأفكار التي راودت نتنياهو، وبعض قادة جيشه في نقل المعركة ضد شمال قطاع غزّة، أو فتح جبهة أكثر سخونة مع «حزب الله» اللبناني، ومع لبنان إذا لزم الأمر.. حتى هذه الأفكار أصبحت صعبة للغاية، وذلك بعد أن تأكّد للمجتمع الإسرائيلي، ولجزء كبير في قيادة جيش الاحتلال أنّ الأمر بات مستحيلاً من الناحية العسكرية، وأنّ «حزب الله» في لبنان كان يعمل على مدى الشهور الثمانية من هذا العدوان وفق سيناريوهات مدروسة، ووفق حسابات دقيقة، وبحيث يصبح هذا الخيار مستحيلاً، أو أن يتحوّل هذا الخيار إلى مغامرة قاتلة.
ما يفعله «حزب الله» واضح أشدّ الوضوح، وهو يقول بصريح العبارة إنّ الحرب الإجرامية الإسرائيلية مع لبنان أصبحت كلفتها على دولة الاحتلال أضعافاً مضاعفة عن حرب الإبادة الجماعية والتجويع التي تشنّها الأخيرة على قطاع غزّة، وأن جيشها الذي أخفق في القطاع ــ باستثناء الجرائم والإبادة ــ ستكون نهاية الحرب معه في لبنان الانهيار، وليس الانكسار فقط.
لم يعد أمام نتنياهو سوى أن يُناور في الهوامش الضيّقة التي تتضمّنها «ألغام» «المبادرة» الأميركية، وهو يثق بقدراته التلاعبية والتفاوضية فيها.
وحتى بايدن نفسه فإنّه أراد أن يستثمر في إخفاق الدولة العبرية لمصالحه الانتخابية.
فقد ضبط بايدن توقيت الإعلان عن مبادرته مع محاكمات دونالد ترامب، وضبط التوقيت مع إعلانات «الغرب» عن «دعم» أوكرانيا، والسماح لها باستخدام الأسلحة الجديدة ضد روسيا وأراضيها، وهو الآن يريد أن يدخل حلبة الانتخابات وهو يحاصر ترامب، ويحظى بتأييد اللوبي الصهيوني والإسرائيلي، وقد يحظى بتأييد بعض المسلمين والعرب إذا نجح في إنهاء العدوان، وقد يمتصّ حركة الاحتجاج التقدمية داخل الحزب الديمقراطي، وقد يعيد جزءاً من «الحلف الغربي» ضد روسيا بعد التصدّعات التي تعرّض لها هذا «الحلف» بعد الإخفاقات الكبيرة التي عانى منها الجيش الأوكراني، والهزائم المتتالية التي تعرّض لها.
إذا تمّ التوافق بين فصائل العمل الوطني الفلسطيني على إستراتيجية موحّدة لمجابهة الاستحقاقات القادمة في ضوء هذه «المبادرة» فإنّ نتنياهو سيعدم الوسائل التي تمكّنه من البقاء «حيّاً» من الناحية السياسية، وستعدم إسرائيل معه أو من دونه الوسائل ما يمكّنها من الادّعاء بالانتصار أو تحقيق أهدافها من هذه الحرب الهمجية.
ليس هناك من شكّ في أن فصائل المقاومة قد أدارت هذه المعركة بصورةٍ أكثر من مقبولة على الصعيد السياسي، كما أحسنت إدارتها عسكرياً.
لكن تبقى معركة إدارة هذه المعركة داخلياً، وهي معركة لا تقلّ أهمية عن المعركة السياسية، وعن المعركة التفاوضية، وقد تتحوّل إلى معركة حاسمة من زوايا كبيرة وجديدة في سياق تطوّر الأحداث.
إدارة المعركة على صعيد توحيد الموقف الوطني مسألة مصيرية في مستقبل وجود فصائل المقاومة وبقائها قوية في القطاع، وفي حضورها السياسي الفاعل على المستوى الوطني الشامل، وهي مسألة مصيرية في القدرة على الاستثمار الفلسطيني لنتائج هذه الحرب التي فشلت فيها دولة الاحتلال من الزاوية الإستراتيجية فشلاً مؤكّداً، بالرغم من عظم الخسائر وضخامة التضحيات الفلسطينية، وبالرغم من المعاناة التي عانى منها شعبنا الفلسطيني في القطاع حتى الآن، ومن استمرار المخطّطات الداهمة على الضفة الغربية.
وربما نكون للمرّة الأولى أمام فرصة تصحيح مسار الظلم التاريخي ضدّ شعبنا في الحصول على بعض حقوقه الوطنية.