تداعيات الحرب على القطاع المصرفي الفلسطيني: حجم الضرر، تقييم الأداء ودور البنوك في حل الأزمة المالية
يُعتبر القطاع المصرفي الفلسطينيي عامود أساس للاقتصاد، فأهيمته تكّمن في الدرجة الأولى تحريك عجلة الاقتصاد و خلق فرص للتنمية الاقتصادية المستدامة بالتزامن و التوازن مع حماية أموال و مدخرات المودعين و العمل ضمن ضوابط رقابية و نِسب سيولة و نِسب كفاية رأس مال مُريحة تُحقق هذه الغاية و تعزز الاستقرار المالي.
بعد ما يقارب 10 شهور من الحرب الأكثر دموية على جميع مكونات قطاع غزة و تداعيات الحرب على الجانب الاقتصادي، لا بد من الوقوف على وضع الاقتصاد الفلسطيني بشكل عام، و عمل تقييم شامل للقطاع المصرفي الفلسطيني بشكل خاص.
ما هي انعكسات تداعيات الحرب الاقتصادية على المتانة المالية للمصارف العاملة في فلسطين و على ثقة المودعين في البنوك و قدرة هذه البنوك على الحفاظ على نِسب سيولة مريحة و ممتازة و نِسب كفاية رأس مال مرتفعة؟ هل تستطيع البنوك أن تستمر في عملها في تحريك عجلة الاقتصاد و أن تكون جزء من الحل للأزمة الاقتصادية و السياسية المزمنة و العميقة التي يعيشها الشعب الفلسطيني؟ ما هي قدرة البنوك على سد الفجوة التمويلية الحالية للحكومة الفلسطينية و كيف يُمكن تخطي أزمة الثقة بين القطاع المصرفي و وزارة المالية؟ و الأهم من ذلك ما هو المطلوب لدعم البنوك و توفير الأدوات المناسبة لها لكي تستمر في عملها و نشاطها و تُعزز من قدرتها على تحريك عجلة الاقتصاد لحين الخروج من عنق الزجاجة؟، كل هذه الأسئلة مُهمة لا بد من التفكير بها و الجواب عليها، و لا بد من وضع حلول بناءة بشكل تشاركي و تكاملي ما بين القطاع المصرفي و سلطة النقد و الحكومة الفلسطينية.
لا شك أن حجم الدمار في غزة كبير جداً حيث أن ما جرى هو تدمير كامل لقطاع غزة طال جميع مرافق و مناحي الحياة و طال التدمير المصارف العاملة هناك أيضا، حيث تُشكل موجودات القطاع المصرفي في قطاع غزة ما يقارب 1.25 مليار دولار بالإجمالي، ويوجد مقابلها مخصصات تفوق ال 250 مليون دولار تم تكوين معظمها في نهاية العام 2023 و في الربع الأول من العام 2024. تُشكل هذه الموجودات بالإجمالي ما يقارب 5.5% من إجمالي موجودات القطاع المصرفي، (و بالصافي تُشكل تقريبا 40% من حقوق المساهمين في القطاع المصرفي). أما التسهيلات الائتمانية فتشكل حوالي 80% من هذه الموجودات معظم هذه التسهيلات ممنوحة لموظفين القطاع العام العاملين و المتقاعدين الذين يتقاضون رواتبهم من وزارة المالية الفلسطينية.
تداعيات الحرب المدمرة كبيرة جداً حيث أن الخسائر التشغيلية و الائتمانية المباشرة شكلت عبء كبير على القطاع المصرفي و خصوصا على البنوك العاملة و الفاعلة في قطاع غزة حيث شاهدنا نمو مضطرد في حجم المخصصات و تراجع كبير في الأرباح مع نهاية العام 2023 و بداية العام 2024 و بالرغم من ذلك، استطاعت المصارف امتصاص هذه الخسائر و البقاء في خانة الربحية والأهم من ذلك الحفاظ على نِسب كفاية رأس مال مرتفعة تتجاوز بهامش مريح النسب المطلوبة حسب مقررات لجنة بازل الرقابية و متطلبات سلطة النقد الفلسطينية، الواقع الحالي يُشكل اختبار ضعط مالي حقيقي للمصارف و كل ذلك الصمود و القدرة على التحمل يعزز أهمية الضوابط الرقابية الموضوعة من قبل سلطة النقد و المتانة المالية القوية التي تتمتع فيها المصارف التي مكنتها من امتصاص الخسائر الكبيرة التي لم تنتهي بعد و ستستمر المصارف في العام الحالي و ربما العام القادم من تكوين المزيد من المخصصات و امتصاص المزيد من الخسائر المتعلقة بشكل مباشر في خسائر قطاع غزة و تداعيات هذه الحرب على الأزمة الاقتصادية في الضفة الغربية أيضا، و من باب عدم الاستعجال في الحكم على الأمور، من الممكن أن تُسجل بعض المصارف خسائر في الربحية في العام 2024، إلى أن جميع المؤشرات تُشير أن هذه الخسائر إن حدثت لن تؤثر بشكل جوهري على المتانة المالية لهذه المصارف و قدرتها على الاستمرار و العودة إلى خانة الربحية مستقبلاً و الحفاظ على نِسب كفاية رأس مال مرتفعة و مريحة و سيولة نقدية ممتازة.
لا يمكن تحليل تداعيات الحرب على المصارف دون تقييم وضع السيولة النقدية في القطاع المصرفي حيث أن مؤشرات السيولة النقدية هي من أهم المؤشرات لتقييم قدرة المصارف على الاستمرار و الحفاظ على أموال المودعين و مدخراتهم، هناك عدة نِسب تُقيم نِسب السيولة و لا شك أنه كل التقارير الصادرة عن سلطة النقد الفلسطينية تؤكد أن جميع المصارف تتمتع بنِسب سيولة مُرتفعة تتخطى المتطلبات الرقابية بهامش كبير و مريح جدا. بالنظر إلى قوائم المركز المالي للقطاع المصرفي ككل و الصادرة عن سلطة النقد الفلسطينية، تُشكل صافي الموجودات السائلة في القطاع المصرفي والتي تتكون من (النقد الفعلي في الخزنات و الصرافات الالية، الاحتياطات و الأرصدة لدى سلطة النقد بالصافي، الودائع المحلية و الخارجية بين البنوك بالصافي، و الموجودات القابلة للتسييل بشكل سريع مثل السندات الخارجية) ما يقارب 8.5 مليار دولار أي ما نسبته 48% من إجمالي ودائع المودعين في القطاع المصرفي كما في شهر 5 من العام 2024، مقارنة ب 7.9 مليار دولار في نهاية شهر 9 للعام 2023 (بداية الحرب) أي ما نسبته 47% من ودائع القطاع المصرفي في ذلك التاريخ. بمعنى أخر، الاحتياطات النقدية لدى سلطة النقد و الموجودات أو الأرصدة السائلة لدى المصارف ككل تُغطي بشكل كبير جداً أي طلبات مستعجلة و ضغوطات طارئة على السيولة قد تحدث للمصارف و تعتبر هذه النِسب مريحة جدا مقارنة بأي قطاع مصرفي في المنطقة أو حتى على مستوى العالم. و في نفس المنحى، اذا أردنا أن نقييم النمو في الودائع و التسهيلات المصرفية منذ بداية الحرب إلى نهاية شهر 5 عام 2024، فقد نمت الودائع بقيمة 890 مليون دولار (5.3% نمو) بينما نمت التسهيلات المصرفية بقيمة 373 مليون دولار (4.1% نمو) أي أن صافي النمو في سيولة المصارف بين الودائع و التسهيلات فقط نما بقيمة 517 مليون دولار في نفس الفترة. قد يستغرب البعض من هذه الأرقام و خصوصا في ظل حجم الدمار و الأثار السياسية و الاقتصادية للحرب، اذا أردنا أن نُحلل، لا بد أن نُوعز هذه التغيرات الإيجابية في سيولة المصارف إلى أربعة أسباب رئيسية: 1) تباطؤ عجلة الاقتصاد و بالتالي تراجع الاستيراد من الخارج بشكل كبير جداً و وبالتالي انخفاض التحويلات التجارية إلى الخارج و خصوصا للسلع و المنتجات الغير أساسية و هذه يعتبر مؤشر إيجابي للسيولة في المصارف على المدى القصير و لكنه أيضا مؤشر سلبي لدورة الأعمال في الاقتصاد الفلسطيني و أيضا له انعكاساته السلبية على حجم أموال المقاصة و إيرادات وزارة المالية بعيداً عن أثر الاقتطاعات من الجانب الاسرائيلي، 2) تدفق بعض المساعدات المالية الإنسانية من الخارج و خصوصاً لأهلنا في قطاع غزة و هذا ما يبرر نمو أرصدة الودائع في قطاع غزة بشكل كبير جداً يفوق النمو في الضفة الغربية، 3) ثقة المواطن الفلسطيني في القطاع المصرفي الفلسطيني و ثقته في قدرة الاقتصاد الفلسطيني على تخطي الأزمة الحالية و بالتالي عدم تخوف المودعين و اندفاعهم إلى تحويل أموالهم إلى الخارج و ما يعزز ذلك بشكل كبير هو أن معظم الودائع هي لمودعين فلسطينين مقيمين داخل فلسطين يتوفر لديهم نوع من المناعة من الأزمات السياسية و الاقتصادية، 4) انخفاض سعر صرف الدولار مقابل الشيكل بشكل طفيف خلال فترة التحليل مما يؤدي الى ارتفاع أرصدة ودائع الشيكل في المصارف عندما يتم تقييمها في عملة الدولار في المجمل، على الرغم من انخفاض التدفقات النقدية من أموال المقاصة و تحويلات أجور عمال الداخل منذ بداية الحرب، إلى أنه هناك عوامل معاكسة أدت إلى استقرار السيولة النقدية في القطاع المصرفي و عدم تاثرها سلباً بسبب الحرب. لا بد من الإشارة أن طبيعة الاقتصاد الفلسطيني هو اقتصاد استهلاكي و غير منتج و يعتمد بشكل كبير على الاستيراد و بالرغم من انخفاض نشاط الاستيراد بشكل كبير إلى أنه في ظل أي انفراجة قد تحدث في الأزمة، من المتوقع أن تعود العجلة الاقتصادية بشكل متسارع مما قد يؤدي إلى ضغوط خفيفة على السيولة على المدى القصير بسبب رغبة التجار في استرجاع نشاطهم التجاري و لكن يمكن تعويض هذه الضغوط من خلال عودة التدفقات النقدية الواردة بشكل تدريجي إلى فترة ما قبل الحرب.
بالرغم من حجم المأساة و المعاناة في قطاع غزة و بالرغم أن حجم الدمار لا يقارن بين غزة و الضفة الغربية إلى أن أثار صدمة الحرب و تداعيتها السياسية و الاقتصادية و الأمنية تطال الضفة الغربية بشكل كبير أيضا، تعودنا في فلسطين أنه لا يمكن فصل السياسة على الاقتصاد كما لا يمكن فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، ومما لا شك فيه أن الأزمة السياسية عميقة نتج عنها أزمة اقتصادية أعمق، فالاقتصاد الفلسطيني يعتمد بشكل رئيسي و كبير على نفقات السلطة الوطنية الفلسطينية و خصوصا الرواتب و الأجور و على تحويلات أجور العمال الفلسطينين في الداخل، و في ظل أزمة العمال و غطرسة الحكومة الاسرائيلية المتطرفة على أموال المقاصة و أزمة السلطة الفلسطينية المالية و تراجع العجلة الاقتصادية و تباطؤها بشكل كبير و متسارع، جعل الاقتصاد الفلسطيني يواجه تحدي كبير جداً و لا بد من التفكير خارج الصندوق و بشكل تكاملي بين مختلف القطاعات لوضع حلول مرحلية و جذرية تمنع التدهور. أزمة العمال هي أزمة قد تكون مرحلية لكن لا بد من إيجاد حل طويل الأمد لها تتمثل بشكل رئيسي في محاولة توطين العمال في وظائف و أعمال محلية تعزز الانتاج المحلي و تعزز مبدأ الاعتماد على الذات، بالرغم من أهمية أزمة العُمال و تداعيتها الكبيرة، إلا أنه تركيزي في هذا المقال على ملف أزمة السلطة المالية و الحلول التي يمكن تساهم البنوك فيها في سد الفجوة التمويلية لوزارة المالية من أجل محاولة إنعاش الاقتصاد و عودة العجلة الاقتصادية إلى الدوران و لو بشكل جزئي.
الكثير يتحدث عن علاقة المصارف مع وزارة المالية و عن عدم رغبة المصارف أو عدم قدرتها على إقراض الحكومة لسد العجز المالي و الفجوة التمويلية الناتجة عن أزمة المقاصة. جميع التخوفات في هذه العلاقة تصب في 3 نقاط رئيسية: 1) المخاطر الائتمانية من التوسع في إقراض وزارة المالية و حجم الدين العام، 2) عدم ثقة المصارف في قدرة أو رغبة وزارة المالية لسداد التزاماتها و انتظام دينها، 3) التخوف من عدم توفر السيولة الكافية في المصارف للتوسع في إقراض وزارة المالية. لا شك أن هذه الموضوع شائك و أن تحليله بحاجة إلى النظر إلى جميع العوامل المشار إليها بطريقة شمولية.
يقدر حجم دين وزارة المالية الفلسطينية الداخلي و الخارجي مع متأخرات القطاع الخاص و الموظفين و أيضا مستحقات هيئة التقاعد الفلسطينية بحدود ال 11 مليار دولار تقريباً من ضمنها فقط 2.5 مليار دولار للمصارف العاملة في فلسطين، كما يقدر حجم الناتج المحلي الإجمالي 19 مليار دولار في عام 2022 . لقد تم النظر على رقم الناتج المحلي لعام 2022 لتقييم حجم الاقتصاد الفلسطيني قبل أزمة المقاصة و قبل الحرب على قطاع غزة على افتراض أن أزمة المقاصة ستكون أزمة مؤقتة و غير متكررة في المستقبل و أن الاقتصاد الفلسطيني سيتمكن من استعاد عافيته و النهوض مجدداً بعد انتهاء الحرب، بناءً على ذلك فإن نسبة الدين الإجمالي إلى الناتج المحلي لا تتجاوز الـ 60% و هي نسبة مريحة جداً و غير مرتفعة مقارنة بدول الجوار و العديد من دول العالم و خصوصاً في ظل العديد من القيود الموضوعة على الاقتصاد الفلسطيني بسبب الاحتلال، حجم الدين العام بذاته ليس مشكلة والإقتراض هو نمط طبيعي تتبعه معظم دول العالم، الأهم هو طريقة إدارة الدين العام و التدفقات النقدية و تكلفة خدمة الدين و آلية توجيه الاقتراض إلى القطاعات التطويرية الإنمائية التي تخلق فرص عمل و قيمة مضافة في الاقتصاد بعيداً عن النفقات الجارية، تكلفة الدين أيضا منخفضة جداً (لا تتجاوز الـ 6% لمعظم الديون) و بالتالي فإن عبء تكلفة الدين على الموازنة هو عبء بسيط جداً، إذا المشكلة تكمن بشكل رئيسي في طريقة إدارة الدين و في آلية توجيه الدين، من هنا نتحدث عن أزمة الثقة بين الشارع الفلسطيني و وزارة المالية و بين المصارف و وزارة المالية، النمط العام سابقاً في إدارة الدين لدى الحكومة الفلسطينية وهو التأخر كثيراً في سداد الالتزامات للمصارف و للقطاع الخاص و الموظفين، الجميع يعرف و يقدر شح الموارد و التدفقات النقدية و لكن المطلوب هو ليس سداد التزامات الحكومة في ظل عدم توفر الموارد، بل المطلوب بشكل رئيسي هو إدارة دين الحكومة بالطريقة المثلى عن طريق تدوير الدين بطريقة أفضل و المقصود بتدوير الدين هو سداد الالتزامات و من ثم الإقتراض فوراً من جديد و هذه ما تفعلة معظم دول العالم. عدم سداد الالتزامات يضع مؤشرات سلبية على الدين و على قدرة و نية الحكومة في الالتزام. تدوير الدين و تنظيمه هي الطريقة الأفضل لكسب ثقة المقرضين و ضمان استمرار الدورة الاقتصادية، معظم دول العالم و بالأخص الدول العظمى و الاقتصادات الكبرى لا تسعى إلى سداد ديونها بل تسعى دائما على إدارة الدين العام بطريقة جيدة تظهر الصورة المشرقة للالتزام و تضمن استمرارية تدفق الأموال من المستثمرين و المقرضين، للأسف سيساسات وزارة المالية السابقة لم تقُم بذلك بشكل جيد مما أدى إلى زحزحة ثقة المصارف في وزارة المالية و تحفظ المصارف و سلطة النقد الفلسطينية على التوسع في إقراض الحكومة. الدين العام هو دين عام بغض النظر عن أشكاله و مستحقيه، فمستحقات و متأخرات الحكومة الفلسطينية للموظفين العمومين و القطاع الخاص هي دين عام و لطالما من الأجدر أن تدفع هذه المستحقات جميعها من خلال نهج جديد من الإقتراض يكون منظم و مبني على الثقة و يدار ضمن منظومة متكاملة لإدارة الدين العام و إدارة عملية تدوير الدين العام تعكس نية و قدرة الحكومة الفلسطينية على الوفاء بالتزاماتها.
أما بالنسة لحجم المخاطر المترتبة على توسيع الإقراض للحكومة من قبل المصارف، فلا بد من تسليط الضوء هنا أن دين الحكومة هو دين سيادي و المخاطر المحيطة و المتعلقة في هذا النوع من الدين هي مخاطر منهجية و نظامية، و هذا النوع من المخاطر إن حصل، لا يمكن تجنبه و يمكن أن يؤثر علي جميع القطاعات بشكل مباشر أو غير مباشر بغض النظر عن مدى تعرض هذه القطاعات بشكل مباشر على السلطة الوطنية الفلسطينية والتي هي أكبر مشغل للعمالة في فلسطين و أكبر مُنفق للنفقاتِ و بالتالي أي تعثُر للسلطة الوطنية سيؤدي الى تدهور العجلة الاقتصادية بشكل كبير جداً لا يمكن تجنبه أو تفاديه.
كل من يعيش و يعمل على أرض فلسطين يحمل مخاطر انهيار المنظومة المالية للسلطة الوطنية الفلسطينية بغض النظر عن مدى ارتباطه المالي بشكل مباشر أو غير مباشر بالسلطة الوطنية الفلسطينية. يقودنا هذا إلى استنتاج أن المخاطر هي موجودة حالياً و بل على العكس فإنها تتزايد كل ما تعمقت الأزمة بدون وجود حلول، هذا الطرح يقودنا الى استنتاج أنه من الأفضل تنظيم هذه المخاطر عن طريق إقراض السلطة لتغطية التزاماتها و مستحقاتها للموظفين و القطاع الخاص و لو بشكل جزئي لمنع المزيد من التدهور و بهدف تحريك و تدوير عجلة الاقتصاد و المحافظة على ما هو موجود حالياً بالحد الأدنى إلى حين الوصول إلى حل سياسي يسترجع أموال المقاصة و يُعيد السلطة إلى عافيتها المالية، ويالتالي فإن إقراض السلطة لتسديد التزامتها لن يزيد من المخاطر بل سيحافظ عليها ثابتة على أقل تقدير و يؤدي بالنتيجة إلى تحريك الاقتصاد و زيادة سرعة دوران المال لتحقيق قيمة مضافة في الاقتصاد و منع التدهور و تحسين الوضع العام.
بعد الانتهاء من تحليل المخاطر الائتمانية من إقراض السلطة، السؤال التالي الذي يطرح نفسه هو هل لدى البنوك السيولة الكافية لزيادة حجم إقراض السلطة أو هل إقراض السلطة سيزيد من مخاطر السيولة في القطاع المصرفي؟ للاجابة على هذه الأسئلة لا بد من التفكير في الدورة الاقتصادية بشكل متكامل. في حال تم إقراض السلطة لتسديد التزماتها إتجاه الموظفين العمومين و القطاع الخاص، فإن هذه الأموال بعد تحويلها إلى مستحقيها ستستغل إما لسداد التزامات في المصارف أو ستصرف في السوق المحلي و من ثم تعود إلى القطاع المصرفي من جديد بعد إكتمال دورة المال، بالتالي كل هذه السيولة ستعود للمصارف بشكل سريع و بالمحصلة لن يكون هناك أثار سلبية على سيولة القطاع المصرفي، بل على العكس، أي تحسن ملموس في الدورة الاقتصادية سيعزز من استقرار و سيولة القطاع المصرفي في المنظور القريب و البعيد، وهنا لا بد من الإشارة الى أن ليس كل البنوك لديها نفس القدرة على إقراض السلطة، و لذلك في حال تم النظر إلى هذا الطرح بإيجابية، لا بد من توزيع الإقتراض الجديد على البنوك بطريقة تراعي حجم كل بنك و قدرته نسبة و تناسب مع حصته السوقية حيث أنه لا يمكن الاعتماد على مصرف أو مصرفين رئيسين فقط في الإقراض. لا بد أيضا من العمل بتشاركية مع سلطة النقد الفلسطينية على تفعيل سوق الإقراض بين البنوك (interbank market) بصورة أكبر و أفضل و أن يدار هذا السوق بين البنوك من قبل سلطة النقد كوسيط أساسي و ضروري في هذه العملية. وبالتالي يجب تحفيز البنوك من توظيف معظم أموال المودعين داخل فلسطين بدلا من أن تستخدم في الخارج.
بما أنه هذه المقالة تناقش أثار الحرب على القطاع المصرفي الفلسطيني و الحلول المقترحة، لا بد أيضا من الدخول في تفاصيل بعض التحديات الأخرى التي يواجها القطاع المصرفي و الحديث عن حلول تمكنه من تخطي هذه التحديات و تحصينه لكي يستمر في دوره الفاعل بتحريك عجلة الاقتصاد و خلق فرص للتنمية بالإضافة إلى دوره المهم الذي يجب أن يلعبه في إعادة إعمار غزة بعد انتهاء الحرب، وهنا لا بد من الإشارة أن أكبر تحدي حالياً هي تداعيات الحرب على قطاع غزة و أثر ذلك على موجودات هذه البنوك و الخسائر التي تكبدتها ووضع حلول لدعمها، ومن جانب اخر، يجب العمل على تعزيز مصادر السيولة للبنوك بكُلف متواضعة و خصوصاً للبنوك المتوسطة الحجم أو الصغيرة و لذلك لتحفيزها على الاستمرار في نشاط الإقراض، يمكن توفير هذه السيولة إما من خلال تفعيل سوق الإقراض بين البنوك بشكل أكبر أو توفير سيولة من جهات خارجية، على الرغم من عدم وجود مشكلة في سيولة البنوك حالياً، إلى أنه أي سيولة إضافية ستعزز من قدرة البنوك على القيام بدورها و تزيد من شهية البنوك على الإقراض و خصوصا للقطاعات الحيوية بالإضافة لا بد أيضا من وضع حلول لفائض النقد الفعلي في عملة الشيكل لتخفيف أعباء هذا النقد على البنوك، فالمشكلة سياسية و لكن لا بد من التفكير خارج الصندوق للتخلص من هذه المشكلة بشكل نهائي. ومن الأمور الأخرى التي يجب مناقشتها هي تنويع مصادر إيرادات البنوك من العمولات و خصوصا في سوق فيه منافسة كبيرة و لا يمكن احتكاره، الفكرة تكمن في خلق إيرادات إضافية للبنوك من جانب العمولات مما يُمكن البنوك من تغطية مصاريفها التشغيلية المرتفعة بشكل أكبر و يعطيها مرونة أكبر بالتنافس على تخفيض فوائد الإقتراض مما سياسهم في تنمية الاقتصاد الفلسطيني بشكل أكبر. أخرا و ليس أخيرا، لا بد من اعتماد معايير محاسبية معدلة للبنوك تتماشى مع الوضع القائم بفلسطين و تعطي مرونة أكبر للبنوك لجدولة التزامات المقترضين و التخفيف من أعبائهم بما يتماشى مع توجيهات و تعليمات سلطة النقد بالخصوص دون تكوين مخصصات إضافية كبيرة و تحميل البنوك أعباء إضافية.
بالنهاية، لا بد من الإشارة الى أهمية القطاع المصرفي الفلسطيني الذي يعمل بشكل أساسي على تحقيق الاستقرار المالي و دفع عجلة الاقتصاد و التنمية الى الأمام، جميع المؤشرات تدل على أن لدينا قطاع مصرفي قوي و متين قادر على امتصاص الصدمات و الاستمرار في نشاطه الطبيعي و الاعتيادي رغم كل الازمات، مؤشرات السيولة و المتانة المالية للمصارف كلها جيدة و تدل على أن هذا القطاع تم بناؤه بناءً جيد ضمن أفضل المعايير الرقابية العالمية، سيستمر القطاع المصرفي بالنمو و النهوض و سيبقى يُشكل رافعة للاقتصاد الفلسطيني. أما على صعيد أزمة الحكومة المالية، الحلول موجودة و يجب وضعها على الطاولة و مناقستها بشكل تشاركي و تكاملي، الأزمة هي سياسية في الأساس و لكن تبعاتها الاقتصادية كبيرة جداً و لذلك لا بد من الوقوف لدعم قدرات السلطة الوطنية الفلسطينية المالية للوفاء بالتزماتاها و تحريك عجلة الاقتصاد، أود الاشارة بأهمية أن الحلول لا تكمن في الإقتراض فقط، بالتأكيد السلطة الوطنية الفلسطينية أيضا بحاجة الى إعادة حسابتها المالية و تقييم موازنتها لمعاجة كل الاختلالات فيها و في الملفات المالية الأساسية الأخرى. لا بد من وضع خطة لإعادة هيكلة الموازنة العامة و التفكير بحلول لترشيد النفقات الجارية و تعزيز الإيرادات، طريقة إدارة المال العام يجب أن تتغير ضمن نظرة اقتصادية شمولية تعزز دعم القطاع الخاص بالشكل الأساسي، يخطئ من يعتقد أن دور الحكومة الفلسطينية أو أي حكومة في العالم هو سد فجوات سوق العمل و تحمل أعباء كبيرة بسبب ذلك، بل إن دور الحكومات المالي يجب أن يكون بشكل أساسي في دعم و تطوير القطاع الخاص الذي بدوره يستطيع أن يُنتج و ينمو و يستوعب أكبر قدر ممكن من العمال و الموظفين بالاضافة إلى خلق قيمة اقتصادية مضافة و تقليص الفجوة نحو خلق اقتصاد فلسطيني منتج يعتمد على الذات، القطاع الخاص بطبيعته عادة ما يكون أكفأ و إن توفرت له الموارد و الدعم المطلوب ستكون إنتاجيته أعلى من إنتاجية الحكومات بأضعاف.