تحديات قيام (سلطة وطنية) أو سلطة مقاومة في ظل الاحتلال
بعيدا عن النوايا فإن كل كيان أو حزب سياسي أو سلطة فلسطينية وافقت إسرائيل على قيامه في فلسطين المحتلة ويمارس عمله بشكل رسمي و مُعلن ستكون مضطرة للقيام بدور وظيفي لصالح إسرائيل حتى وإن كان الطرف الفلسطيني يسعى لأهداف أخرى ،وإلا سيعمل الاحتلال على القضاء عليه، والأمر ينطبق على موافقة إسرائيل على تشكيل أحزاب عربية في أراضي ١٩٤٨ أو موافقتها على تأسيس المجمع الإسلامي في غزة في ١٩٧٦ أو موافقتها على قيام سلطة فلسطينية ١٩٩٤ بعد توقيع اتفاقية اوسلو، وفي نفس السياق كان سكوتها على انقلاب حماس على السلطة ٢٠٠٧ وتسهيل الأمور لاستمرار سلطتها طوال ١٧ سنة بتنسيق ودعم دولة قطر .
بالنسبة للسماح بتشكيل أحزاب عربية تشارك في الانتخابات وحنى للحصول على مقاعد في الكنيست كان هدف الكيان العنصري منه الظهور أمام العالم كدولة ديمقراطية أو دولة كل مواطنيها بغض النظر عن الدين أو العرق أيضا ايجاد كيانات وقيادات عربية تدير شؤون البلدات العربية ،ولكن بالرغم من وجود عدد من الأحزاب ووجود أعضاء كنيست عرب الا ان ذلك لم يمنع ممارسة الدولة الاضطهاد والتمييز بين العرب واليهود في مجالات التعليم والصحة والعمل أيضا انتشار الجريمة في الوسط العربي حيث ان نسبة 75% من الجرائم تقع في الوسط العربي الذي تعداده ٢١% من السكان، كما جندت إسرائيل كثيرا من العرب للخدمة في الجيش الإسرائيلي لقتال إخوانهم الفلسطينيين.
لا يعنى هذا تجريد الأحزاب الفلسطينية وقياداتها من الانتماء الوطني لفلسطين ولا تجاهل دورهم في النضال الوطني دفاعا عن الأرض والهوية كما جرى في يوم الأرض في مارس 1976 وغيرها من المواقف، ولكن قدرة العدو أكبر على توظيف الأحزاب العربية لخدمة المشروع الصهيوني ويساعدهم في ذلك الانشقاقات في الوسط العربي، وقد تمكنت إسرائيل في ظل هيمنة اليمين اليهودي الصهيوني المتطرف الذي يقود حكومة نتنياهو من تقييد أي نشاط ولو سلمي لمناهضة حرب الابادة في غزة، ومع ذلك سيبقون شوكة في حلق الكيان العنصري يكشفون عنصريته وزيف ديمقراطيته.
وفي غزة شجعت إسرائيل على قيام المجمع الإسلامي التابع لجماعة الإخوان وجماعات اسلاموية أخرى لمواجهة منظمة التحرير وأنصارها في الأراضي المحتلة بل وسهلت دخول اسلحة خفيفة لهم لهذا الغرض.
وعند توقيع اتفاقية أوسلو كان هناك مراهنتان: الأولى لمنظمة التحرير ومفادها أنه من خلال قيام سلطة فلسطينية داخل الأراضي المحتلة يمكن تجنب مخطط تصفية المنظمة والقضية الوطنية كما كان مخططا له بعد حرب الخليج الثانية ١٩٩٠ ،وانتقال مؤسسات منظمة التحرير داخل الوطن مع عودة أكثر من مائتي ألف فلسطيني للوطن، وبناء مؤسسات وطنية حتى في مناطق سلطة حكم ذاتي تمهد للدولة المستقبلية، أما مراهنة وموافقة إسرائيل على قيام البسطة فكان تجاوبا مع ضغوط أمريكية أيضا مراهنة أن دخول منظمة التحرير ومقاتليها ومؤسساتها للداخل سيضعه تحت أنظارها وتخضع الحالة الفلسطينية لما تريده الدولة من خلال تحكمها بالسيادة والمعابر والاقتصاد والتنسيق الأمني ما بين السلطة وإسرائيل، ومن المعلوم أن إسرائيل رفضت أي إشارة للدولة الفلسطينية في الاتفاق كما رفضته في كل مباحثاتها السرية في أوسلو وهو نفس موقف واشنطن عندما وافقت على الدخول في مفاوضات مع المنظمة في عام 1988، كما رفضت إسرائيل مسمى (السلطة الوطنية الفلسطينية) وأصرت على مسمى (السلطة الفلسطينية) فقط دون الوطنية لأنها تعتبرها سلطة حكم ذاتي دون سيادة ولا تريدها أن تمارس أي دور وطني مرتبط بمفهوم الدولة والوطن والسيادة، ومع حكومة اليمين الحالية تعمل على إنهاء الدور الوظيفي للسلطة.
وبالنسبة لسلطة حماس، كان على إسرائيل مواصلة ما بدأت في المجمع الإسلامي من خلال إيجاد منافس لمنظمة التحرير يشكك بشرعيتها و تمثيلها للشعب ويدخل معها في صراع يستنزفها وتمهيد لحرب اهلية، ومن هنا كان انسحابها من طرف واحد من غزة حيث كان تمركز وجود حماس فيها دون الضفة ثم سكوتها على الانقلاب والانقسام الذي فصل بين الضفة وغزة وأضعف كل الحالة الفلسطينية. كما أن حركة حماس كما ورد في ميثاقها حركة إسلامية ومشروعها إسلامي يتجاوز الدولة الوطنية ومفاهيمها واستحقاقاتها وحديثها كان ينصب على الأمة الإسلامية والخلافة الإسلامية كما هو حال مرجعيتها جماعة الإخوان المسلمين، وهو أمر لم يكن يزعج إسرائيل والغرب آنذاك.
عندما شعرت اسرائيل أن هذه المكونات الوطنية تسعى للتمرد على الدور الوظيفي وتسعى للعب أدوار وطنية حقيقية بدأت في التضييق عليها ومحاولة التخلص منهم أو دفعهم للالتزام بالدور الوظيفي المفترض.
الفرق بين هذه الكيانات الفلسطينية ان هناك من يعرف أنه يقوم بالدور الوظيفي ومشارك ومتواطئ منذ البداية بسبب وجود مصالح مشتركة غير وطنية، وهناك من أكتشف لاحقا أنه يقوم بدور يخدم الاحتلال وأن مراهناته على تغيير وظيفة السلطة للصالح الوطني قد فشلت وحاول التمرد عليه دون فائدة وكانت إسرائيل له بالمرصاد كما جرى مع الزعيم أبو عمار، وهناك من يحاول المناورة والتهرب من القيام بهذا الدور الوظيفي من خلال تغيير بطيء ومتدرج لوظيفة السلطة ولكنه مكبل ما بين بين طبقة سياسية تشكلت خلال سنوات السلطة معنية باستمرار القيام بالدور الوظيفي لصالح الاحتلال من جانب، واستمرار المراهنة على إمكانية تحقيق مصلحة وطنية من خلال منجزات تم تحقيقها للمصلحة الوطنية من جانب اخر، وهذا حال السلطة الفلسطينية في عهد ابو مازن، الا ان الواقع يميل لصالح المراهنة الإسرائيلية حيث يتأكل الدور الوظيفي الوطني للسلطة لصالح مشروع اليمين اليهودي الصهيوني .
هذا الموضوع يطرح تساؤلات وتحديات كثيرة حول قدرة الشعب الفلسطيني على ممارسة حقه بتقرير مصيره ومقاومة الاحتلال بكل الطرق الممكنة دون الاضطرار للتنسيق مع الاحتلال أو تشكيل كيانات سياسية وعسكرية تعمل بشكل علني.
وبالنسبة للمقاومة المسلحة، ففي ظل موازين القوى والواقع الراهن وطنيا وإقليميا ودوليا، إذا كان بقاء الشعب على أرضه في الضفة والقدس والقطاع وإفشال مخطط اليمين الصهيوني لتصفية القضية الوطنية يتطلب التخلي عن الأنفاق والصواريخ العبثية والأسلحة الثقيلة والقواعد والمراكز العسكرية المكشوفة وسط المخيمات والمدن وتحت أعين الاحتلال...،مقابل أن تدار هذه المناطق من طرف سلطة فلسطينية مدنية غير حزبية مع التوافق على استراتيجية وطنية للمقاومة فأنا مع ذلك إلى حين تغير الظروف والأحوال ولن يضيع حق من ورائه مطالب، ومقاومة الاحتلال حق شرعي للشعب تضمنه كل الشرائع الدينية والدنيوية غير مرتبط بحزب او حركة بعينها أو بزمان ومكان محددين، ولا تحتاج المقاومة والعمل الفدائي الى وجود مقرات ثابتة أو مؤسسات ووزارات تحت أعين الاحتلال وإشرافه..
وجود حركة تحرر لها مؤسسات رسمية ووزارات وموظفين رسميين يتقاضون رواتب بل و سفارات وبعثات أجنبية في ظل الاحتلال وتحت رقابته حالة غير مسبوقة في تاريخ حركات التحرر الوطني عالميا ـ وهو ما يحتاج لمفكرين استراتيجيين لدراسة الحالة الفلسطينية انطلاقا من الواقع الفلسطيني وليس تشبه او تقليد الحركات التحرر الأجنبية، ومطلوب من القيادات الفلسطينية في داخل الخط الأخضر وفي السلطتين ،في الضفة وغزة ،إعادة النظر في سلوكهم واختياراتهم في العقود السابقة وخصوصا في ظل مجتمع وحكومة الأكثر تطرفا وعنصرية في تاريخ إسرائيل وفي العالم..