الجنائية.. خطوة في طريق طويل
إنّ قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة اعتقال "بطاقة جلب" لرئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير الجيش السابق بتهمة ارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، يمثل خطوة مهمة في طريق تحقيق العدالة الدولية، ويتيح فرصة لمحاسبة قادة إسرائيليين على جرائمهم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني خاصة في قطاع غزة. يمهد اقتناع قضاة المحكمة التمهيدية بوجود أسباب معقولة بارتكاب قادة إسرائيليين كأفراد بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ينص عليها ميثاق روما المنشأ للمحكمة الجنائية الدولية تعزيز قناعة المجتمع الدولي بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية المنظورة في محكمة العدل الدولية أي خرق إسرائيل كدولة للاتفاقية الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
في ظني أنّ الوصول للعدالة يحتاج إلى جهد جماعي وصبر وتأنٍ ووقت قد يكون طويلاً، إلا أنّ هذا الطريق أصبح ممكناً؛ فرحلة الأف ميل تبدأ بخطوة، ومعبداً للمرة الأولى لمحاكمة من يعتبرون حلفاء للغرب أو محسوبين على الدول الغربية منذ محاكمات نورنبيرغ عام 1945 بذات جرائم الحرب. وهي بذات الوقت اختبار للقوى العالمية التي رعت وساهمت ببناء نظام العدالة الدولية بما فيها الدول الأطراف في ميثاق روما خاصة الدول الغربية؛ حيث أن جميع هذه الدول التي تتلقى طلباً بالقبض الاحتياطي أو طلباً بالقبض والتقديم محمولةٌ على الامتثال لقرار المحكمة، وفقا لأحكام المادة 59 من الميثاق، باتخاذ خطوات على الفور للقبض على الشخص المعني وفقا لقوانينها.
وفي جميع الأحوال، قد لا يعني إصدار المحكمة التمهيدية قرار مذكرة الاعتقال "الجلب" قرب أو إمكانية قرب محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، فالسلطات الإسرائيلية ستمتنع عن تنفيذ هذا القرار وكذلك الدول غير الموقعة على ميثاق روما بخاصة الولايات المتحدة المنحازة لإسرائيل وجرائمها. كما يمكن أنْ تلجأ الإدارة الامريكية للتحايل باستصدار قرار من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع لوقف البدء بالتحقيق لمدة 12 شهراً وفقاً لأحكام المادة 16 من ميثاق روما بحجة محاولات وقف إطلاق النار أو احراز تقديم في العملية السياسية مع امكانية تجديده لأكثر من مرة لذات الأسباب.
لكن لا تقتصر تداعيات قرار المحكمة التمهيدية على الملاحقة القضائية لرئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير جيشة السابق بحد ذاتها بقدر التداعيات السياسية المحتملة كمنع وامتناع سفرهما إلى 124 دولة هي الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية، واحتمال صدور مذكرات اعتقال سرية تشمل قادة سياسيين وعسكريين إسرائيليين آخرين ستعرضون لخطر الاعتقال حال وصولهم إلى أيا من الدول الأطراف في المحكمة، ناهيك عن دفع العديد من الدول لوقف تصدير السلاح لإسرائيل وإمكانية مقاطعتها، وهذا الأمر قد يأتي منسجماً مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة /ES-10/L.31/Rev.1 A الصادر في 13 أيلول والذي صادقت بموجبه على قرار محكمة العدل الدولية الاستشاري.
في ظني أنّ أهم تداعيات هذا القرار هو وسم إسرائيل بأنها دولة تمارس جرائم الحرب ودولة مارقة الأمر الذي يفقدها تعاطف الجمهور الغربي بل أيضا الحكومات الغربية، وادعائها بأنها الدولة الديمقراطية في الشرق الأوسط وبأنها تحمل القيم الغربية مما يعني عزلها عن المجتمع الدولي مستقبلاً.
إنّ هذا الأمر لم يكن ليتحقق لولا انضمام دولة فلسطين لميثاق روما عام 2014، الجهد الكبير الذي قامت به الحكومة الفلسطينية على مدار السنوات الماضية لاستكمال الإجراءات أمام المحكمة التي أدت إلى اعتماد المحكمة بأنّ الجرائم الواقعة في أرض دولة فلسطين تقع من ضمن اختصاص المحكمة، والجهود التي بذلتها منظمات المجتمع المدني الفلسطينية والعربية والدولية، ناهيك عن الدول الصديقة التي دعمت وساعدت وضغطت من أجل فتح التحقيقات المختلفة في الجرائم المرتكبة في وعلى أراضي دولة فلسطين.