قراءة تحليلية للإعلان الدستوري بشأن شغور منصب الرئيس
عقب صدور الإعلان الدستوري المتضمّن تولي رئيس المجلس الوطني مهام رئيس السلطة الفلسطينية حال شغور المنصب، ثارت العديد من التساؤلات حول دستورية هذا الإعلان، وتساؤلات أخرى حول الطبيعة القانونية لهذا الإعلان، وكذلك حول الخصوصية التي رافقت صدوره. وفي محاولة لاستقراء ما جاء في مضمون هذا الإعلان والذي تضمن النص على: "إذا شغر مركز رئيس السلطة الوطنية في حالة عدم وجود المجلس التشريعي، يتولى رئيس المجلس الوطني الفلسطيني مهام رئاسة السلطة الوطنية مؤقتاً، لمدة لا تزيد على تسعين يوماً، تجري خلالها انتخابات حرة ومباشرة لانتخاب رئيس جديد وفقاً لقانون الانتخابات الفلسطيني، وفي حال تعذر إجراؤها خلال تلك المدة لقوة قاهرة تمدد بقرار من المجلس المركزي الفلسطيني لفترة أخرى، ولمرة واحدة فقط"؛ لا بد من الإشارة ابتداءً إلى أن ما جاء في مضمون هذا الإعلان يُمثّل تعديلاً للقانون الأساسي الفلسطيني، والذي لطالما كانت هناك محاولات سابقة لتعديله لغايات استحداث منصب "نائب الرئيس"، إلا أن العائق كان دائماً الحاجة لموافقة أغلبية ثلثي أعضاء المجلس التشريعي، وفقاً لأحكام المادة (120) من القانون الأساسي الفلسطيني المعدل لعام 2023؛ ومن الواضح أنه ولتجنّب الإقدام على تعديل القانون الأساسي بموجب "قرار بقانون" كأحد الآليات التي تم استخدمها لأغراض متعددة تجاوزت الغاية المرجوة من وجودها، بدءً من إقرار الموازنة العامة من خلالها، وصولاً إلى تمديد حالة الطوارئ.
ولمحاولة تجنّب قيام ما يُمكن أن يُمثّل "فضيحة دستورية" بأن يتم تعديل وثيقة دستورية بموجب تشريع أدنى درجة ضمن الهرمية التشريعية؛ فقد تم إجراء هذا التعديل من خلال ما يُعرف "بالإعلان الدستوري"، أي من خلال وثيقة قانونية تحمل صفة الوثيقة الدستورية.
التكييف القانوني للإعلان:
تم إصدار الإعلان تحت مسمى "إعلان دستوري"، إلا أن التجارب المقارنة عادة ما تستخدم الإعلانات الدستورية خلال الفترات الانتقالية لوقف العمل بالدستور أو تعطيل مواده، وغيرها من المسائل التي عادة ما تُزامن الفترات الانتقالية والأزمات الدستورية، ومن بين التجارب التي شهدتها الدول المجاورة ما صدر من إعلانات دستورية في مصر عقب الثورة المصرية خلال العام 2011. وبالعودة إلى محاولة إعطاء الوصف القانوني السليم لهذا الإعلان، استناداً لمضمونه بمعزل عما عنون به من تسميات؛ فإن هذا الإعلان يُمكن تكييفه على أنه ما هو إلا تعديل للدستور (القانون الأساسي) من خلال "قرار بقانون" تبعاً لما جاء بمضمونه، وقد أخذ وصم "الإعلان الدستوري" كتخريجة قانونية تجنباً للحرج.
مسألة الدستورية:
بالرجوع إلى أحكام القانون الأساسي الفلسطيني ولاسيما المادة (37/2) فقد جاء النص صريحاً بشكل واضح لا لبس فيه: "إذا شغر مركز رئيس السلطة الوطنية في أي من الحالات السابقة يتولى رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني مهام رئاسة السلطة الوطنية مؤقتاً لمـدة لا تزيد عن ستين يوماً تجرى خلالها انتخابات حرة ومباشرة لانتخاب رئيس جديد وفقاً لقانون الانتخابات الفلسطيني". وعليه، فإن ما جاء بمضمون هذا الإعلان الدستوري يتعارض مع ما جاء بالقانون الأساسي من خلال استبدال المنصب، من منصب "رئيس المجلس التشريعي" إلى منصب "رئيس المجلس الوطني" – مع اشتراط حالة عدم وجود المجلس التشريعي "غير الموجود حالياً" - واللذان يعدان منصبين مختلفين لمؤسستين مختلفتين. ومن ناحية أخرى، فقد تم تمديد المدة من (60) يوماً إلى (90) يوماً. وعليه يُمكن القول أن الإعلان الدستوري يشوبه شبه عدم الدستورية لمخالفته أحكام القانون الأساسي الفلسطيني. وبالتالي يبقى القول الفصل في تحديد مسألة دستورية هذا الإعلان من عدمه للمحكمة الدستورية الفلسطينية صاحبة الاختصاص الأصيل في هذه المسألة؛ إلا أن ذلك سيكون مرهوناً بمدى قبول المحكمة لبسط رقابتها على "الإعلان الدستوري" كأحد التشريعات المندرجة ضمن مشمولات رقابة الدستورية في فلسطين؛ من خلال إعمال كلمة "وغيرها" التي وردت بالمادة (103) من القانون الأساسي الفلسطيني، والمادة (10) من القرار بقانون رقم (12) لعام 2024 لتعديل قانون المحكمة الدستورية العليا رقم (3) لسنة 2006، والتي تنص على : "تختص المحكمة الدستورية دون غيرها: 1. الرقابة على دستورية القوانين واللوائح أو النظم وغيرها...".
البعد الفقهي والفلسفي:
من بين النظريات التي ابتدعها الفقه الدستوري ما يُعرف بنظرية "حالة الاستثناء" وهي بالمجمل النظرية التي انبثق عنها بعض الاستثناءات التي تم تأطيرها ضمن معظم الدساتير في العالم؛ من تنظيم لحالات الطوارئ، وتشريعات الضرورة (القرار بقانون بالحالة الفلسطينية). وفي هذا السياق، لا بُدّ من الإشارة إلى أن تفعيل "حالة الاستثناء" لا يحتاج إلى نصوص دستورية تنظّم آلية تفعيلها، سيما وأن "حالة الاستثناء" ما هي إلا خروج عن التطبيق العادي للدستور. وعليه، فإن ما تضمّنه هذا الإعلان من تعديلات لأحكام القانون الأساسي بصورة مُغايرة للآلية التي رُسمت لتعديله في ظل خصوصية الحالة الظرفية التي يعيشها النظام السياسي الفلسطيني في الوقت الراهن، قد يُنظر إليه بأنه يُعد بمثابة الخروج عن التطبيق العادي للدستور إعمالاً لنظرية حالة الاستثناء.
ومن جهة أخرى، وبمعزل عن مدى دستورية وقانونية ما جاء ضمن الإعلان الدستوري، وفي سياق استحضار نظرية "السلطة التأسيسية" والتي تنقسم لسلطة منشئة (أصلية/صانعة للدستور) وسلطة منشأة (معدلة)، فإن تعديل الدستور بطريقة تخرج عن الأصول التي رسمتها نصوص الدستور لطريقة تعديله، يُعد تفعيلاً للسلطة الـتأسيسية المُنشئة (الأصلية).
البعد السياسي والحالة الظرفية
لقد جاء الإعلان الدستوري في ظل حالة سياسية وظرفية صعبة يُعاني منها الشعب الفلسطيني في ظل العدوان القائم على قطاع غزة، والظروف السياسية الاستثنائية التي تُعاني منها الضفة الغربية، والتي تصاعدت وتيرتها إلى أن وصلت إلى الإدلاء بتصريحات عن نية ضم الضفة الغربية وفرض السيادة عليها، ومحاولة تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق منعزلة عن بعضها البعض (كانتونات). وفي ظل هذه الظروف، وتجنّبا لأن يكون الرئيس محمود عباس آخر رؤساء السلطة الفلسطينية في حالة الشغور المفاجئ للمنصب؛ وخاصة في ظل النية التي باتت شبه معلنة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، بالتوجه نحو إعادة تفعيل ما كان يُعرف ب"روابط القرى"، أو إنشاء مجلس رئاسي يضم مجموعة من رؤساء بلديات المناطق الفلسطينية المتناثرة في أنحاء الضفة الغربية لتمثيل السلطة الفلسطينية أوأي جسم بديل عنها. وأمام هذه الحالة كان لا بد للسلطة الفلسطينية من العودة إلى الأصل من خلال الاستنجاد بأولى "القلاع السياسية" الفلسطينية المتمثّلة بمنظمة التحرير الفلسطينية (المُنشئة للسلطة الفلسطينية)، في محاولة لسد الثغرة القائمة بالنظام السياسي الفلسطيني من خلال إيجاد نصوص قانونية - بغض النظر عن مدى دستوريتها – لضمان انتقال السلطة الرئاسية بشكل آمن وشرعي، وكذلك من خلال تقديم بديل مقبول فلسطينياً، لشغل منصب الرئيس في حال شغوره؛ باعتبار أن المنظمة تمثّل الكل الفلسطيني، وأن رئيس المجلس الوطني (البديل المطروح) يُعد رأس أعلى سلطة بمنظمة التحرير من بين سلطاتها الثلاث، ويُشكل رديفاً لمنصب رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني من حيث "المسمى" كمؤسستين تمثلان سلطة تشريعية في كل من السلطة والمنظمة.
وأمام هذه الحالة، يثور عدة تساؤلات مُفادها: هل تُمثّل هذه الخطوة أولى خطوات العودة للوراء، في سبيل إعادة استنهاض المنظمة من سباتها، وإعادة تسليم الصلاحيات المختلفة من قبل السلطة للمنظمة، أم أن الغاية من هذه الخطوة تكمن في محاولة سد ثغرة شغور منصب الرئيس من خلال استحضار المنظمة لفترة مؤقتة إلى حين الانتهاء من ترتيب الأوراق، ومن ثم العودة لإعادة المنظمة لمكانتها الرمزية؟
لماذا لم يُعالج الإعلان حالة عدم التمكّن من إجراء انتخابات رئاسية بعد مرور (90) وتمديدها لمرة أخرى بعد موافقة المجلس المركزي، وهل يعني ذلك احتفاظ رئيس المجلس الوطني في حينه بشغل منصب رئاسة السلطة لسنوات طويلة؟
لماذا تضمّن القرار الإشارة إلى منصب "رئيس السلطة الوطنية" ولم يتضمّن الإشارة إلى منصب "رئيس دولة فلسطين" تبعاً للمسمى الحالي للمنصب على أرض الواقع، وخاصة ما بعد الاعتراف الدولي بفلسطين بالعام 2012 كدولة بصفة مراقب غير عضو بالأمم المتحدة؟