نكبتان بينهما انتفاضتان
بين الثامن من ديسمبر 1987 و 2024 ليس فقط مجرد سبعة وثلاثين عاماً، فالانتفاضة الكبرى التي اندلعت شرارتها في مخيم جباليا الثورة، كما جرت تسميته، شكلت في الواقع ذروة ثورة كانت قد انطلقت شراراتها في حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي رداً على نكبة فلسطين عام 1948، لتجد نفسها في أتون هزيمة عربية في حزيران 1967. لقد تفوقت الانتفاضة الشعبية في الوطن حينها على الثورة اللاجئة في تخوم دول الطوق. صحيح أن الانتفاضة كانت ثمرة ما حققته الثورة الفلسطينية من إنجازات، ولكن الصحيح أيضاً أنها أي الانتفاضة قدمت نموذجاً كفاحياً أدخل عدالة القضية الفلسطينية في كل بيوت المعمورة، وأعاد لها مكانتها، وطوى في حينه كل محاولات الالحاق والطمس وتذويب الهوية، ليس فقط في المحافل العربية والإقليمية والدولية التي سبق لمنظمة التحرير أن أنجزتها، بل وفي الضمير الإنساني لدى شعوب الأرض قاطبة.
حاول البعض أن يُلقي بمسؤولية الانحدار والتمزق السياسي الذين تولدا بعد أوسلو على الانتفاضة، دون مجرد التدقيق في مسؤولية القيادة التي استعجلت ثمار تلك الانتفاضة لإنقاذ ذاتها، في غمار التحولات الدولية إثر حرب الخليج، وسقوط المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي، أي الحاضنتين العربية والدولية لمنظمة التحرير الفلسطينية في ذلك الحين.
لم يكن قدراً أن تنتهي السلطة، كثمرة لكفاح شعب، إلى ما هي علية اليوم. إلا أن وضع انجازات عقود من النضال توجتها الانتفاضة الكبرى في رهان تسوية غير واضحة المعالم، وفي بنية سلطوية فشلت في تحديد طبيعة تلك المرحلة، بما هي وهم التسوية الكفيلة بإنجاز الاستقلال، وافتقار القيادة إلى امتلاك رؤية موضوعية لطبيعة المرحلة، وما تستدعيه من فلسفة للحكم تتطلب بنية مؤسسية جوهرها القدرة على تعزيز صمود الناس، بما يُمكِّنهم من استمرار الانخراط في الكفاح الوطني بالوسائل الشعبية ذات الطابع الديمقراطي العميق التي أبدعتها الانتفاضة ذاتها. ولكن الأخطر من ذلك أن الحالة الفلسطينية انقسمت إلى مسارين، الأول الذي مارسته القيادة الرسمية، من حيث وهم قدرة مفاوضيها على تحقيق الاستقلال الوطني، رغم العزلة الشعبية التي كانت تتفاقم تدريجياً، بفعل سياسات السلطة على الصعيد الداخلي، بينما خَوّن رافضو التسوية هذا المسار، من منطلق الاعتقاد بامكانية دحر الاحتلال بالعمليات الاستشهادية، في تحييد واضح من الاتجاهين للشعب وقدرته الكفاحية و دوره الجماهيري في معركتي البناء الديمقراطي والتحرر الوطني .
في الأثناء كانت حكومة الاحتلال الاسرائيلي التي لم تنظر للعملية السياسية سوى دفرسوار للالتفاف على إنجازات الانتفاضة في الوعي الفلسطيني والاسرائيلي والدولي على حد سواء ، مضللة الجميع بانهاء الصراع، في وقت واصلت فيه تعزيز مشروعها الاستيطاني دون التزام ليس فقط بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، بل وبالتراجع عن معظم مانصت عليه أوسلو ذاتها باعادة الانتشار من المنطقة المسماة ج، والتي كان من المفترض أن تُنقل السيطرة عليها مدنياً وأمنياً للسلطة الوطنية بعد ثمانية عشر شهراً من تنصيب المجلس التشريعي الذي تم في السابع من آذار 1996، أي في سبتمبر 1997، وهو ما لم ينفذ إطلاقاً.
دون الدخول في تفاصيل لا يتسع لها هذا المقال، فقد نجحت اسرائيل في افشال مسار التسوية، كما فشلنا نحن في تحويل بنية السلطة إلى رافعة لتعزيز صمود الناس، وتبين للقيادة السياسية النوايا الاسرائيلية من مسار التسوية، والذي يرفض بالمطلق الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في تقرير المصير، التي غابت عن رسائل الاعتراف المتبادلة، وعن مجمل نصوص إعلان مبادئ أوسلو، الأمر الذي تَوَّج تلك المرحلة بالانقلاب الاسرائيلي على التسوية ، ونصب فخاً للقيادة الفلسطينية بالذهاب نحو خيار الانتفاضة الثانية تحت وهم تحسين شروط التفاوض دون مراجعة وطنية والاتفاق على رؤية سياسية موحدة قد تحقق هذا الهدف، الأمر الذي مَكّن شارون من ربط تلك الانتفاضة بالحرب الكونية على الإرهاب، وإعلان حربه على السلطة ومؤسساتها، وفرض شروط جديدة ما زالت السلطة الفلسطينية عالقة في وحلها، وهي التي مهدت فعلياً للتوسع الاستيطاني، وفرض الحصار على قطاع غزة، في سياق سعي اسرائيل لفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، التي تتعرض لأبشع مخططات الاستيطان والضم والتهويد. ذلك لمنع قيام دولة فلسطينية متواصلة حتى في سياق مفهوم ما يسمى ب"حل الدولتين" ، والذي يعني إعطاء اسرائيل حق الڤيتو، في وقت أنها تواصل تدمير أي إمكانية لبلوغ ذلك، بل وتجاهر بهذا الأمر بما في ذلك قرار الكنيست برفض إقامة دولة فلسطينية والذي حظي بأغلبية ساحقة من الائتلاف والمعارضة على حد سواء .
ما العمل ؟
من الواضح تماماً الإجماع الصهيوني على رفض حق تقرير مصير الشعب الفلسطيني، واعتقاد الحكومة الفاشية بزعامة نتانياهو أنها قادرة على خلق شرق أوسط جديد يشكل بيئة لادعاء نصرها ليس فقط على الشعب الفلسطيني، بل و شعوب المنطقة، سيما في سياق محاولاتها لتفكيك و/أو احتواء سوريا ومعها بعض دول الجوار السوري. هذا في وقت أن القيادة المهيمنة على المشهد الفلسطيني، ورغم مضي 430 يوماً من الإبادة والتطهير العرقي الجماعيين، ما زالت تناور وتمتنع عن القيام بأي خطوة تواجه بها الاستراتيجية التي تنفذها حكومة الإبادة والضم الاسرائيلية، سيما لجهة مراجعة مواقفها سواء بما يخص توحيد البلد والنظام السياسي على صعيد المنظمة والسلطة، وإعادة تكييف بنية السلطة ذاتها لجهة وظيفتها الرئيسية المتمثلة بتعزيز قدرة الناس على الصمود، وما يستدعيه ذلك من انحياز لمتطلبات الوحدة، وليس الاستمرار في طريق وهم التسوية دون توفير شروطها الذاتية وفي مقدمتها الوحدة الوطنية واستراتيجية عمل وقيادة وطنية موحدة في إطار مؤسسات الوطنية الجامعة داخل منظمة التحرير بمشاركة الكل الوطني، والاسراع في تشكيل حكومة توافق انتقالية كما نص عليها إعلان بكين وفق أولويات وطنية لتضميد جراح غزة وإعادة الأمل لأهلها المكلومين بدءاً بوقف الحرب المجرمة وصولاً للإغاثة والإعمار، إلى جانب بناء مؤسسات واقتصاد وطني قادرين على استنهاض طاقة الشعب الفلسطيني في مواجهة مخططات الضم والتصفية.
وأخيراً إذا كان هناك من دروس تقدمها لنا المسألة السورية وما آلت إليه، فيأتي في مقدمتها عدم الارتهان للخارج، بالإضافة إلى أن الشعب وحده هو القادر على حماية نظامه، وما يستدعيه ذلك من استحقاقات أولها الإصلاح الجذري السياسي بديلاً عن التفرد والانفراد والهيمنة . هذا في حال دول معترف بها، فما بالنا بشعب تحت الاحتلال، ويعيش يومياً تحت وطأة الإبادة والضم وخطر التصفية في ظل متغيرات خطيرة تتطلب التغيير الفوري والجذري، وليس انتظار ما يقدمه ترامب وغيره. حينها، وحينها فقط فإن شعب الانتفاضة والكفاح الوطني العنيد، و رغم جراحه وتضحياته الهائلة المعرضة للتبديد، سيكون في ميدان الصمود والدفاع عن مستقبله ومصيره الوطني في هذه البلاد، والتصدي لفاشية الأحلام الصهيونية في نكبة جديدة .