ألم الميلاد في المهد
في الأسبوع الماضي، زُرت المدينة التي أحبها بيت لحم بعد غياب دام عامًا، وسط أجواء خالية من عيد الميلاد. كانت المدينة التي لطالما شهدت أهازيج الفرح وروحانية الاحتفالات، تعيش حالة من الحزن والهدوء الثقيل. بيت لحم، المدينة التي ارتبط اسمها بولادة السيد المسيح عليه السلام، باتت اليوم تحت وطأة مشاعر مختلطة من الأسى والتأمل، تعكس واقع الفلسطينيين في ظل ظروف الاحتلال المستمرة.
على مرّ التاريخ، كانت بيت لحم رمزًا للسلام والتآخي، مدينة تجذب ملايين الزوار من مختلف أنحاء العالم ليشهدوا جمال كنيسة المهد وساحة الميلاد. لكن هذه الصورة بدأت تتلاشى تدريجيًا. فمع استمرار سياسات الاحتلال التي تقطع أوصال الضفة الغربية وتحد من حرية الحركة، باتت بيت لحم تُختزل في معاناتها اليومية، من الحواجز العسكرية إلى التوسع الاستيطاني الذي يلتهم الأراضي المحيطة بها.
في زيارتي الأخيرة، تجولت في شوارع المدينة، وعاينت ساحة المهد التي كانت يومًا نابضة بالحياة. اليوم، الساحة شبه فارغة، فنادقها مغلقة، ومتاجرها تعاني من الركود. تحدثني هذه المشاهد عن حزن عام يلف المكان، ليس فقط بسبب التحديات الاقتصادية، بل أيضًا نتيجة الغياب المستمر للبهجة التي كانت تميز هذه المناسبة.
لكن وسط هذا الظلام، لا تزال هناك أصوات تعلو بالأمل. داخل كنيسة المهد، التي تحتضن مكان ولادة المسيح، تواصل الترانيم والصلوات صدحها، حاملة رسالة السلام والمحبة التي جاء بها المسيح للعالم. ورغم تراجع الزخم السياحي، إلا أن الكنيسة لا تزال تستقبل القليل من الزوار الذين يأتون ليشهدوا عظمة التاريخ وروحانية المكان.
لطالما اعتمدت بيت لحم على السياحة الدينية في إنعاش اقتصادها. لكن العام الحالي شهد تراجعًا كبيرًا في أعداد الزوار، نتيجة سياسة التطهير العرقي المستمر في غزة والضفة الغربية. الفنادق والمطاعم التي كانت تعج بالزوار في هذا الوقت من العام أُغلقت أبوابها، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية لسكان المدينة.
بالإضافة إلى الجانب الاقتصادي، يعاني الناس من تراجع الروحانيات المصاحبة للعيد. ففي ظل أزيز الطائرات الإسرائيلية الذي يذكر بالمعاناة اليومية لأهل غزة، أصبح من الصعب على سكان بيت لحم الاحتفال بعيد الميلاد كما كانوا يفعلون في السابق. الشعور بالأمان والفرح أصبح ترفًا لا يمكن تحقيقه بسهولة.
لا طعم للفرحة في بيوت الفلسطينيين ولو وضعوا مغارات رمزية في دورهم؛ فرحتهم مسروقة، وقلوبهم مكسورة، ودموعهم ثخينة تملأ أعينهم. من قلب بيت لحم، يمكن سماع صدى المعاناة القادمة من غزة المصلوبة بدورها منذ أربعة عشر شهراً.
الألم الفلسطيني تجاوز الحدود الجغرافية، وصار جرحًا مشتركًا للكل الفلسطيني. في ظل العدوان المستمر، يتشارك الفلسطينيون الحزن العميق على منازل دُمرت وأرواح أُزهقت في غزة، التي تقف على أطلالها منذ أربعة عشر شهرًا، بات الألم جزءًا من تفاصيل الحياة اليومية.
بيت لحم، المدينة التي شهدت ولادة السيد المسيح عليه السلام، تعيش اليوم واقعًا مختلفًا. تمامًا كما رفضت مريم العذراء أن تجد لها مكانًا في الفندق قبل ألفي عام، تجد المدينة نفسها اليوم محرومة من زوارها وسكانها. أكثر من 500 عائلة فلسطينية مسيحية هجرت المدينة خلال الأعوام الماضية، ما يهدد هويتها التاريخية ويجعل مستقبلها محاطًا بالمخاطر.
أمام هذه المشاهد المؤلمة، يصبح من الضروري على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤوليته الأخلاقية والإنسانية تجاه بيت لحم وفلسطين بأكملها. يجب أن تتوقف سياسات الاحتلال التي تقتل الفرح في نفوس السكان، وأن يُمنح الفلسطينيون حقهم في العيش بكرامة وسلام. عيد الميلاد ليس مجرد مناسبة دينية، بل هو رمز للأمل والعدالة. ومن حق بيت لحم وغزة وطولكرم... أن يعود لهم هذا الأمل الذي طال غيابه.
بيت لحم، مهد السيد المسيح، تستحق أن تكون رمزًا للسلام كما كانت دائمًا. ولن يتحقق هذا إلا إذا توحدت الجهود لإنهاء الاحتلال وتحقيق العدالة التي ينشدها جميع الفلسطينيين.