نشوة الانجازات التكتيكية الإسرائيلية برسم التقديرات الخاطئة
كتب
قبل السابع من تشرين/أكتوبر كان هناك دراسات ونقاشات حول الواقع في إسرائيل من حيث طبيعة النظام السياسي وما يحدث من صراع لأسباب شخصية وأيديولوجية "نتنياهو ودرعي وهوية الدولة"، وجاهزية الجيش الإسرائيلي من حيث إستطاعته على مواجهة ساحات متعددة في نفس الوقت وقدرته على ذلك عدة وعدداً، وبالذات القوات البرية فيه، بسبب من خطط تقليص عدد الجيش النظامي وتحويله إلى مفهوم "الجيش الصغير والذكي".
وكان للاسف الشديد هناك مُحللين كثر في "محور المقاومة" يقلّلون من قدرة الجيش الإسرائيلي، بل يرون أن ما كان يحدث من صراع داخلي على هوية الدولة في إسرائيل وعلى محاولة السيطرة على المنظومة القضائية عبر تشريع قوانين تهدف بالأساس الى حماية "نتنياهو" ومعه "آرييه درعي"، تمثل عائق كبير امام الدولة لِ خوض حروب كبيرة، وأكثر من ذلك كان هؤلاء المُحللين يتحدثون وكأن الجيش الإسرائيلي غير جاهز ولا يستطيع القيام بحروب شاملة وفي عدة جبهات.
في نفس الوقت، كان هناك البعض القليل من المُختصين في الشأن الإسرائيلي يرون أن طبيعة الصراع في النظام السياسي الإسرائيلي لا يعكس نفسه بالضرورة على الجيش رغم كل التضخيم الإعلامي الإسرائيلي حول رفض الخدمة او التهديد بعدم الخدمة في الجيش اذا استمرت الحكومة اليمينية المتطرفة في إصلاحاتها القضائية، وأن قضايا الأمن في إسرائيل تعلو فوق كل شيء، وأي تهديد قد تتعرض له الدولة لن يتردد أحد في الدفاع عنها، بل التهديد سيؤدي لوحدة النظام السياسي وإلى تماهي الجميع تحت هدف امني واحد، وهو حماية أمن المستوطن والمستوطنة.
كان هؤلاء المُحللين القِلة يرون إسرائيل بعيون إسرائيلية وأمريكية وليس بعيون وتقديرات نابعة من تطور قدرات "محور المقاومة" عدة وعدداً، وأذكر في أحد النقاشات التي تمت عبر الزوم في حلقة أكاديمية روسية أن احد المطلعين على الواقع الميداني من جبهة لبنان تحدث وكأن الإسرائيلي عاجز عن مواجهة غزة فكيف سيواجه لبنان "رحمه الله"، يومها لم أكن اعرف من هو، ولاحقا بعد إستشهادة ورؤية صورته عرفت من هو، على كل يومها طلبت الرد، وقلت مع كل الإحترام هذه تقديرات غير واقعية وان التوجه في إسرائيل هو حرب تدميرية وان سردية الحرب الوجودية المُعلنة وحرب الإستقلال الثانية ليست عَبثية، بل هي تأكيد على أن إسرائيل المؤسسة أخذت قرار بالحرب الشاملة وعلى كل الجبهات وان جبهة لبنان قادمة بعد غزة إن لم تكن خلالها، وأن الامريكي أيضا أخذ قرار ليس فقط بالوقوف بجانب إسرائيل، ولا بتزويدها بالسلاح فقط، بل بتمكينها من الإنتصار، وان لا بديل لإسرائيل بعد السابع من تشرين/أكتوبر، سوى إنتصار واضح لا غبار عليه وبما يؤدي إلى تفكيك "محور المقاومة" الذي أصبح يشكل قلق للأمريكي وللإقليم ككل.
بعد السابع من تشرين/أكتوبر، إنقسم مُحللي "محور المقاومة"، حيث اصبح الفلسطينيين منهم يرون بضرورة الحرب الشاملة وعلى كل الجبهات وليس الذهاب نحو جبهات إسناد فقط، ومن كان منهم يُشكك في قدرة الجيش الإسرائيلي وخاصة قواته البرية تراجع عن ذلك، في حين بقي اصحاب فكرة أن إسرائيل غير قادرة على فتح جبهة أخرى وبالذات جبهة الشمال يتمترسون حول موقفهم ويصرون على أن إسرائيل لن تذهب إلى حرب شاملة مع المقاومة اللبنانية، وكما يبدو هناك قصور كبير في فهم طبيعة الدولة الإستيطانية المسماه إسرائيل، وقصور في النظرة الأمريكية لهذه المستوطنة، لدرجة ان بعضهم كان يعتقد بدرجة كبيرة أن هناك مصالح أمريكية في المنطقة تمنعها من إعطاء ضوء أخضر للكيان المحتل للقيام بمغامرات وحروب في المنطقة معتقدا أن ذلك يَضر في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية، ونسي او لم يفهم أن المصلحة العليا التي لا يعلو عليها شيء بالنسبة لأمريكا هي "إسرائيل" وبعدها تأتي المصالح الأخرى، فلا مصالح أخرى أصلاً بدون دولة المستوطنيين "إسرائيل" القوية والمنتصرة، لأن وظيفتها بالأساس هي المحافظة على تلك المصالح ولا أحد غيرها في المنطقة بقادر على ذلك، طبعا عدا عن الإرتباطات الأخرى كمفهوم صهيوني مُعَوّلَمْ.
بعد السابع من تشرين/ أكتوبر وحتى الآن للاسف، لا يزال الكثير من المُحللين وبالذات المختصين في الشأن الإسرائيلي يعيشون حالة توهان نتيجة الكم الهائل الذي تُورده وسائل الإعلام الإسرائيلية، لدرجة انهم يعتقدون ان بعض المقالات او بعض الأخبار او حتى بعض التصريحات هي التي تُشكل السياسة الإسرائيلية إن كانت من حيث ما تريده حكومة اليمين المتطرف وعلى رأسها نتنياهو او المفاهيم الأمنية الإستراتيجية الجديدة للمستوطنة المسماه "إسرائيل".
لذلك هناك ضرورة لتوضيح بعض الأمور التي اصبحت هي ألف باء السياسة في إسرائيل، خاصة بعد زلزال السابع من تشرين/أكتوبر وتداعياته التي لا تزال حاضرة وتتدحرج بشكل سريع، وبحيث من خلالها يُمكن فهم التوجهات الإستراتيجية الحقيقية لدولة المستوطنة "إسرائيل"، إلى جانب القضايا التكتيكية التي تخص مفهوم البقاء الائتلافي اليميني الذي يترأسه "نتنياهو"، وهنا نشير أن العناصر الجديدة هي التي تُحدد الواقع الجديد في كل الجبهات القريبة واللصيقة "لبنان، سوريا، غزة، الضفة"، وايضا الجبهات المحيطة "اليمن والعراق وإيران"، وهذه العناصر تتمثل بما يلي:
اولا- إعتماد مفهوم المنطقة العازلة...لا عودة لمستوطني الشمال والجنوب بدون ذلك، ولا أمن ممكن الحفاظ عليه ومنع سابع تشرين/اكتوبر بدونه، والتوغل في "سوريا" جزء من ذلك، والمنطقة العازلة في "غزة" اصبحت وكأنها أمر واقع، اما في "لبنان" فيتم العمل عليها بتسارع كبيرعبرما تم من تدمير شامل لكل القرى المتاخمة للحدود وإستمرار ذلك حتى في ظل إتفاقية وقف إطلاق النار، وعبر الحديث عن عدم الإنسحاب من كل الأراضي اللبنانية حسب الإتفاق، لكن قد يتم التعامل مع "لبنان" بطريقة أمنية بدون التواجد الفعلي بل بوضع شروط جديدة تجعل من الحضور المباشر وكأنه واقع.
ثانيا- سياسة "المنع" و "الإحباط" كبديل عن سياسة "التحذير" و "الدفاع"، وهذه السياسية يتم فرضها بشكل واضح عبر الغارات الجوية اليومية والتوغلات المستمرة في جبهة الجنوب اللبناني "سياسة حرية الحركة" وفقاً لورقة التفاهمات الثنائية الأمريكية - الإسرائيلية، وبما بعني ذلك من التعامل مع كل الجبهات بنفس الطريقة "سوريا" وبما فيها أيضا الجبهات المحيطة "اليمن وإيران والعراق" ووفقا لمفهوم الإحتياج الأمني لمنع تطوير القدرات من جهة، وإحباط النوايا وفقا لتقديرات المؤسسة الأمنية من جهة أخرى، اما جبهة "غزة" فقصتها اكبر من ذلك بكثير حيث يرونها ساحة كما "الضفة الغربية".
ثالثا- لا دولة فلسطينية بجانب الدولة المستوطنة "إسرائيل"، ولا أمن غير الأمن و الجيش إسرائيلي بين البحر والنهر، ويُسمح بوجود تشكيلات أمنية محلية في الضفة وغزة شرط ان تكون تحت الإشراف الإسرائيلي وبمساعدة أمريكية مباشرة وتعاون مع دول إقليمية محددة.
رابعا- المستوطنة المسماه "إسرائيل" وبدعم أمريكي لا محدود، لها فضاء أمني إستراتيجي يشمل منطقة غرب آسيا بالذات وشمال أفريقيا كتقدير مستقبلي، وهذا يعني إحداث تغيير جيو سياسي أمني اولا، وجغرافي "تقسيم المُقسم وتجزيء المُجزأ" ثانيا حين الإحتياج، أي فرض معطيات سياسية في تلك الدول بحيث تؤدي إلى رؤية جديدة لأي نظام سياسي قائم.
وفق العناصر اعلاه يمكن قراءة مشهد الحديث عن صفقة تبادل الأسرى ووقف الحرب والانسحاب الشامل من قطاع غزة، ورؤية مشهد لبنان وسوريا المستقبلي من وجهة نظر الدولة المستوطنة "إسرائيل" طبعا، ورؤية المشهد القادم في اليمن وإيران وممكن العراق أيضا، لذلك فإن مشهد عام 2025 هو مشهد إستمرار "الحرب" اي أنه سيكون "عام حرب" كما السابق، لكن وتيرتها وطبيعتها تُحدده الوقائع على الأرض، ومن يريد أن يفهم حقيقة ما يجري، عليه متابعة تحركات وخطط وزير الشؤون الإستراتيجية، الوزير "رون دريمر"، لانه هو مع "نتنياهو" يرسمون الخُطط المستقبلية وبما يخدم الإستراتيجية الأمنية والسياسية للمستوطنة المسماه "إسرائيل" من جهة، والحفاظ على تماسك الإئتلاف الحاكم من جهة أخرى.
خلاصة القول
لا صفقة دون ان تَتَحقق رؤى الدولة المستوطنة "إسرائيل" وبقيادة نتنياهو بالذات تجاه "غزة"، وكل شيء يتم تنسيقه مع الأمريكي وبالذات مع إدارة الرئيس "ترامب"، والهدف هو إفشال الصفقة وتحميل "حماس" مسؤولية ذلك امام الرئيس "ترامب" بهدف تحقيق تلك الرؤية، وكما قلنا في تشرين ثاني/ نوفمبر، موضوع الاسرى والمُختجزين ليست بذي قيمة عند "نتنياهو" ومخططاته، والفرق بينه وبين المؤسسة العسكرية والأمنية انهم يريدون الأسرى عبر صفقة حتى لو ادت لوقف الحرب والانسحاب من قطاع غزة "تأجيل مؤقت لتنفيذ الرؤيا"، بينما يرى "نتنياهو" أن الدولة المستوطنة "إسرائيل" تُحقق إنجازات كبيرة يجب ان تستمر فيها ولا تلتفت كثيرا إلى عقبة "الأسرى"، لذلك يتلاعب "نتنياهو" في الجميع داخليا وخارجيا، ولكنه يُرسل وزيره المقرب "دريمر" للتفاهم مع إدارة "ترامب" حول كل شيء، وبالذات حول الدعم الامريكي لما تريده الدولة المستوطنة "إسرائيل" كإحتياج أمني وإستراتيجي، يُعيد لها ليس مفهوم "الردع" وإنما مفهوم "الجيش الذي يستطيع الوصول لاي مكان في كل منطقة غرب آسيا وشمال افريقيا (الشرق الاوسط)", أي العودة لمفهوم "الجيش الذي لا يقهر".
وبما يتعلق بالجبهة اللبنانية فقضية إطلاق يد الجيش وسُهولة الحركة أصبحت واقع امني ويومي في الجنوب اللبناني، وسوف تستمر كسياسة دائمة، إلا إذا حدث ما يعيد للردع توازنه وهذا كما يبدو لا يلوح في الأفق القريب، خاصة أن المشهد الرسمي "السوري" داعم للتوجهات الإسرائيلية تجاه الفهم الأمني للجبهتين "السورية واللبنانية"، لكن وحدها ظهور شيء إسمه "المقاومة السورية," للإحتلال سيخربط الأوراق ويفرض على دولة المستوطنة "إسرائيل" البحث عن حلول إخرى اساسها العودة الى تفاهمات عام 2006.
اما ما يتعلق بالجبهات المحيطة، فيبدو أن عام 2025 هو العام الذي سيتم إستهدافها بشكل مباشر وبدعم ومشاركة امريكية مباشرة، وبالذات بما يتعلق بِ "إيران"، لأن تنفيذ الخطط الإستراتيجية الأمنية لا يمكن أن تتم بدون توجيه ضربة كبيرة وقاسمة للرأس، ولذلك قلنا ان عام 2025، هو "عام حرب"، لأن أي ضربة لرأس محور المقاومة ستؤدي بالضرورة وبالحد الأدنى لتبادل الضربات بين الطرفين، هذا اذا لم تؤدي إلى حرب شاملة، اما "اليمن" فسوف تستمر سياسة الهجمات الجوية الإسرائيلية الأمريكية البريطانية، مع تفعيل الحرب الأهلية من جديد إن أمكن.
دولة المستوطنة "إسرائيل" حققت إنجازات تكتيكية كبيرة بسبب التقديرات الخاطئة لدى قيادة دول وجبهات "محور المقاومة"، ونظرتها القاصرة لتوجه هذا الكيان بعد السابع من تشرين/ اكتوبر ، لكن مع التطورات الجيو سياسية في الإقليم، وظهور نظام في "دمشق" يبحث عن إرضاء أمريكا ودولة المستوطنة "إسرائيل"، فأعتقد أن على كل من تعبوا من الدمار والإبادة التي إقترفتها وتقترفها دولة المستوطنة "إسرائيل" أن يبحثوا عن إستراتيجية جديدة لا يكون "الصبر" العادي ولا الإستراتيجي عنوانها، واول الخطوات في هذا المضمار هو ولادة "مقاومة سورية.
الخيارات يتم فرضها من قبل دولة المستوطنة "إسرائيل"، لذلك لا يوجد ترف من الوقت ويجب التعامل معها، إما بمفهوم إنتظار الفرصة والتي لن تأتي بالحد الادنى في عقد من الزمن، وإما مواجهتها ومحاولة فرض معطيات على الأرض قد تسمح بالحد الأدنى للعودة للتفاهمات السابقة "وهذا غير ممكن" لأن مواجهة خيارات الدولة المستوطنة "إسرائيل"، بالضرورة ستفرض خيارات اخرى ستأخذ المنطقة لواقع جديد سيكون للمشهد "السوري" فيه تأثير حاسم إذا ما ظهرت جبهة مقاومة جديدة ضد الإحتلال الإسرائيلي للأرض السورية.
الإنجازات التكتيكية التي حققتها دولة المستوطنة "إسرائيل"، جائت بفضل التقديرات الخاطئة والإرتكان للوعودات الأمريكية والتخوف من إنتقال الوحشية التي ظهرت في قطاع غزة "الإبادة والتطهير والتدمير" إلى بقية الجبهات، وهذا ما حدث في جبهة الشمال.