جدل النصر في ظل الهدنة: بين الحسابات الاستراتيجية وكلفة الصراع
مقالات

جدل النصر في ظل الهدنة: بين الحسابات الاستراتيجية وكلفة الصراع

لطالما كان مفهوم النصر في حركات التحرر الوطني موضع جدل، إذ لا يقتصر على تحقيق انتصار عسكري فحسب، بل يشمل أيضًا تحقيق مكاسب سياسية، دبلوماسية، واجتماعية تؤدي إلى تحقيق الأهداف الاستراتيجية للحركة الوطنية. فالتجارب التاريخية أثبتت أن النصر لا يُحسم فقط في ميدان المعركة، بل في القدرة على استثمار النتائج عسكريًا وسياسيًا ودبلوماسيًا لتحقيق الاستقلال الوطني وترسيخ السيادة. فمن هذا المنطلق، يمكن تصنيف النصر إلى عدة أبعاد؛ فالنصر العسكري يتحقق عند هزيمة العدو أو إجباره على تقديم تنازلات، كما حدث في معركة "ديان بيان فو" (1954) التي أجبرت فرنسا على مغادرة فيتنام. أما النصر السياسي، فيرتبط بالاعتراف الدولي بحق الشعب في تقرير مصيره، كما حصل مع الجزائر عام 1962 بعد سنوات من النضال المسلح والتفاوض السياسي. فيما يتجسد النصر الدبلوماسي في تعزيز الاعتراف الدولي بالقضية الوطنية، كما حدث عندما اعترفت الأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني عام 1974، او بدولة فلسطين في العام 2012. أما البعد الثقافي والاجتماعي للنصر، فيكمن في قدرة الحركات الوطنية على تعزيز الهوية الوطنية وترسيخ مؤسسات الدولة المستقلة، كما فعلت الهند بعد استقلالها عام 1947.
وفي السياق الفلسطيني، يثور جدلً واسعً حول مفهوم النصر في الحرب الدائرة بين الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة في قطاع غزة. إذ ترى حركة حماس ومعها حركات المقاومة الأخرى، أن صمودها أمام العدوان، واستمرارها في القتال رغم التفوق العسكري الإسرائيلي، يمثل انتصارًا بحد ذاته، خاصة مع اضطرار الاحتلال إلى التفاوض بدلًا من تحقيق أهدافه بالقوة. فقد دخلت إسرائيل الحرب واضعةً نصب عينيها القضاء على القدرات العسكرية لحماس، واغتيال قادتها، وتحرير أسراها، أي الاسرى الاسرائليين، بالقوة، إلا أن الواقع الميداني أثبت عجزها عن تحقيق هذه الأهداف رغم حرب الإبادة منذ اكثر من خمسة عشر شهرا. ومع استمرار الحرب دون حسم، وجدت إسرائيل نفسها أمام معادلة استنزاف أجبرتها على اللجوء إلى المفاوضات، في اعتراف ضمني بإخفاقها في فرض "نصر مطلق". يضاف إلى ذلك أن جزءًا من استراتيجية الردع الإسرائيلية القائمة على عقلية التدمير الشامل، والتي تُعرف بـ "عقيدة الضاحية الجنوبية" الهادفة إلى الفصل بين المقاومة وحاضنتها الشعبية عبر إحداث دمار هائل وإيقاع خسائر بشرية جسيمة، لم تؤتِ ثمارها. فعلى الرغم من الدمار الواسع الذي لحق بغزة، لم تخرج المقاومة رافعة الراية البيضاء أو ملقية بسلاحها، بل ما زالت المعركة متواصلة، وهو ما يعكس فشل الاحتلال في تحقيق أحد أهم أهدافه الاستراتيجية. 
في المقابل، يرى أصحاب الرأي الاخر أن النصر الحقيقي لا يتحقق بمجرد القدرة على الصمود أو تحقيق مكاسب سياسية آنية، بل يُقاس بقدرته على إحداث تحول استراتيجي يؤدي إلى إنهاء الاحتلال وضمان حقوق الفلسطينيين. وفق هذا الطرح، فإن القبول بتهدئة مشروطة، في ظل استمرار الحصار والدمار، لا يُعد إنجازًا بقدر ما يعكس واقعًا مفروضًا لا يغيّر جوهر المعاناة، خاصة أن الاحتلال لم يُجبر على تقديم تنازلات جوهرية. فضلا عن كما يشكك أصحاب هذا الراي في إمكانية الانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية من الهدنة، إذ لا توجد ضمانات تمنع الاحتلال من استئناف عدوانه، لا سيما في ظل تصريحات رئيس وزرائه والضغوط التي يمارسها اليمين المتطرف داخل حكومته، والتي تؤكد استمرار العمليات العسكرية. ويجادلون بأن إسرائيل، كعادتها، ستستغل أي هدنة لإعادة ترتيب صفوفها ثم تعود إلى التصعيد، مما يجعل المكاسب المعلنة مؤقتة وهشة. وبالنظر إلى حجم التضحيات، حيث تجاوز عدد الشهداء 50 ألفًا، وفاق عدد الجرحى 100 ألف، إضافة إلى الدمار الواسع للبنية التحتية والتهجير الجماعي، فإن الحديث عن نصر في هذه الظروف يبدو، وفق أصحاب هذا الراي، أقرب إلى خطاب تعبوي منه إلى إنجاز استراتيجي حقيقي يضمن مستقبلًا أفضل للفلسطينيين.
يبقى التساؤل مطروحًا: هل الجدل حول "النصر" نابع من اختلاف حقيقي في تعريفه بين طرفي المشهد السياسي الفلسطيني، تحديدا بين فتح وحماس، أم أنه امتداد لحالة التنافس السياسي المستمرة منذ الانقسام عام 2006، والتي تعكس غياب برنامج وطني موحّد وتفاقم حالة التشرذم داخل النظام السياسي؟ فمع استمرار الانقسام، وتعاظم تأثير القوى الإقليمية على كلا الطرفين، يبدو أن هذا الخلاف يتجاوز البعد الميداني ليصبح جزءًا من صراع النفوذ الداخلي. كما أن التوقيت نفسه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى ملاءمة هذا الجدل في لحظة تاريخية تتطلب التوافق والوحدة بدلًا من تعميق الانقسامات. فمن المستفيد من توسيع رقعة الخلاف بين أقطاب النظام السياسي الفلسطيني، في وقت يحتاج فيه الفلسطينيون أكثر من أي وقت مضى إلى موقف موحد؟ وإذا كان الطرفان غير مقبولين لدى الاحتلال الإسرائيلي، بل يُنظر إليهما من قبل اليمين الإسرائيلي كعدوين يجب التخلص منهما، فكيف يمكن لهذا الانقسام أن يخدم سوى الاحتلال ذاته؟ وعليه، إن لم يوحّدنا الدم النازف، وإن لم يجمعنا العدو المشترك، فما الذي يمكن أن يوحّدنا؟
وفي ظل هذا الانقسام السياسي والتنافس الداخلي، يبرز تحدٍ آخر مرتبط بتوصيف نتائج المواجهة، حيث تختلف القراءات بين من يرى في أي مكسب نصرًا استراتيجيًا، وبين من يعتبر كل شيء هزيمة ما دام الاحتلال قائمًا. فاعتبار كل مكسب ميداني انتصارًا استراتيجيًا قد يؤدي إلى تضليل الرأي العام وإنتاج شعور زائف بالإنجاز، مما قد يؤثر على القدرة على التخطيط الاستراتيجي للمرحلة المقبلة. في المقابل، فإن التقليل من أي مكسب واعتبار كل ما دون إنهاء الاحتلال هزيمة، قد يؤدي إلى حالة من الإحباط السياسي والشعبي، ويعزز الانقسام الداخلي بدلًا من بناء رؤية وطنية مرحلية واقعية تستند إلى التراكم التدريجي للإنجازات. لذلك، فإن التقييم الموضوعي للمكاسب والخسائر يجب أن يأخذ في الاعتبار السياقات الميدانية والسياسية، ويوازن بين تحقيق المكاسب التكتيكية قصيرة الأمد والاستفادة منها في تعزيز الأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى.
تاسيسا على ما سبق، فانه لا يمكن لأي تقييم للمرحلة الحالية أن يكون دقيقًا وواقعيًا دون الاستماع إلى صوت أهل غزة، فهم الأكثر قدرة على الحكم على ما تحقق، لأنهم من تحملوا القصف، والصمود، والمعاناة. إنهم من واجهوا الدمار والتشريد، وهم من دفعوا أثمانًا باهظة في هذه المواجهة. ولذلك، ينبغي أن يكون تقييم المرحلة مستندًا إلى رؤيتهم وتجربتهم المباشرة، لا مجرد تحليلات سياسية أو إعلامية من خارج المشهد الميداني. فضلا عن ذلك، وولكي يكون تقييم المرحلة الحالية دقيقًا وواقعيًا، من الضروري أن يتحلى طرفا النظام السياسي الفلسطيني بالتواضع والموضوعية في تقييم ما تحقق، والابتعاد عن المبالغة في تصوير الإنجازات أو التقليل من حجم التحديات. فالهدنة، بغض النظر عن طبيعتها، تشكل محطة مهمة في مسار الصراع، وهي لحظة تفرض علينا جميعًا استخلاص الدروس والعبر، لا سيما فيما يتعلق بتكتيكات المواجهة، قدرة الشعب الفلسطيني على الصمود، وديناميكيات المعركة السياسية والعسكرية. ومن هذا المنطلق، ينبغي التعامل مع هذه المرحلة على أنها خطوة ضمن مسار طويل نحو التحرر من الاحتلال، وليس كنهاية مطلقة للصراع، وهو ما يتطلب خطابًا عقلانيًا يراعي واقع الإنجازات والإخفاقات على حد سواء، ويدفع باتجاه مراجعة استراتيجية شاملة تعزز الموقف الفلسطيني داخليًا وخارجيًا.
وفي ظل هذه المعطيات، يصبح من الضروري ألا تظل النقاشات حول النصر والهزيمة مجرد سجالات سياسية، بل أن تتوجه نحو تعزيز وحدة الصف الفلسطيني لمواجهة التحديات المقبلة. فاللحظة الراهنة تستدعي الترفع عن المناكفات السياسية، والتوجه نحو لملمة الجراح وتعزيز اللحمة الوطنية بدلًا من تعميق الانقسام. فمن الضروري أن يحتفظ الطرفان بملاحظاتهما وتحفظاتهما حول اتفاق الهدنة، لكن دون استنزاف الجهد في معارك داخلية لا تخدم إلا الاحتلال. فلكل شيء وقته وتوقيته، والنقد البناء يجب أن يكون جزءًا من عملية التقييم الداخلي الهادئ لا سجالًا يزيد من حالة التشرذم الفلسطيني. وما لم يكن هناك موقف موحد ورؤية استراتيجية جامعة، فستبقى كل محطة، مهما كانت كبيرة، مجرد حدث مؤقت لا يترجم إلى إنجاز استراتيجي في مشروع التحرر الوطني. إن الحاجة اليوم ليست فقط إلى استخلاص العبر، بل إلى إعادة ترتيب الأولويات، وبناء جبهة فلسطينية موحدة تستطيع مواجهة تحديات المرحلة القادمة بوعي ومسؤولية.
ملاحظة إضافية: دار نقاش مع صديقي رامي في عمان، بعد اشهر على حرب الإبادة والعدوان الإسرائيلي على أهلنا في قطاع غزة، وفي ظل الجدل الدائر حول مفهوم النصر منذ زمن، إلى أن النصر بالنسبة له، يرتبط بشكل أساسي بفشل الاحتلال في التهجير القسري لشعبنا الى سيناء، وبقاء كتلة بشرية حرجة في شمال القطاعـ، فهل ما زال هذا مفهومك صديقي للنصر ؟

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.