إعادة بناء العلامة السياسيّة: كيف يعيد القادة تشكيل صُورهم؟
من الضروري في عالم السياسة الديناميكي والمليء بالتقلبات والمزايدات والتنظير، وضع استراتيجية لإعادة بناء العلامة السياسية للقادة Rebranding Leaders كمسار عمل أساسي للسياسيين ورجال السلطة الراغبين بالتعافي وإظهار القطيعة مع ماضيهم، والراغبين بجذب جمهور جديد، والتكيف مع المعايير المجتمعية والسياسية تبعاً لمستجدات العلاقات العامة في المجتمعات التي انخرطوا بقيادتها. وعلى هذا، فهم يسعون لتحسين وتعديل صورتهم العامة، وزيادة شعبيتهم، وحشد دعم أكبر من المجتمع المحلي والظهور أمام المجتمع الدولي المراقِب بصورة مغايرة عما سبق؛ فيكونوا رؤيويين ومستقبليين، وفق استراتيجيات بنّاءة مع وعي مسبق من فريق العلاقات العامة والاتصال السياسي الخاص بهم حول تأثير هذه التحولات على إدراك الجمهور والحكم، كوننا ننتقل في هذا السياق من نموذج وسائل الإعلام الجماهيرية التي تبرز هؤلاء القادة إلى نموذج المستهلك في الاتصال السياسي Political Consumer. يجعل هذا النسق من صورة القادة "سلعة" والجمهور مستهلكين. يجد القادة الذين كان أن صورتهم تتضرر بسبب أخطاء سياسية أو عسكرية أو دبلوماسية سابقة وتحركات غير مرغوب بها عند الانتقال إلى مشهد سياسي جديد أو العيش في مناخ قيم اجتماعية مغايرة. وبالتالي، تصبح إعادة بناء العلامة أداة بقاء واستراتيجية نجاة تتطلب جهدًا تسويقيًا مدروسًا للحفاظ على الصلة مع الحاضر والمكانة لدى أبناء المجتمع المحلي والدولي على حد سواء.
تشير كلمة السمة أو Branding إلى حالة من التمثيل النفسي لشخصية أو منظومة تعكس قيمتها لدى الجمهور، وتنعكس إيجابًا على ذوقه، وتتلاقى مع أهدافه بالشكل الذي يحقق له الرضى، فيختار هذه الصورة لا غيرها. لكن الأهم من وجود هذه الحالة هو كيفية بنائها وتوظيفها بالشكل الذي يصل إلى الارتباط العاطفي والرومانسي كمستوى أعلى من القيمة الوظيفية للشخصية القيادية أو المنظومة ككل؛ ليصبح لدينا تركيز أكبر على اسم القائد وصورته. كمفهوم، ظهر "التسويق السياسي Political Marketing" منذ أيام اليونانيين عندما كانوا يسوقون لبرامجهم عبر النقش على ألواح يجوب بها ممثلوهم أرجاء المدن، ليتطور ويصل إلينا العلم بوجود ماكينات إعلامية وحسابات السوشال ميديا، لتصبح صناعة قائمة بحد ذاتها يرغب فيها السياسيون والقادة. وعلى هذا فإن موجة النشاط السياسي في العقدين الأخيرين خلقت مخاوف وفرصاً جديدة في أروقة صنع القرار، إذ واجه القادة السياسيون مجموعة متنوعة ومكثفة من الضغوط من جانب الحركات التقليدية للمعارضة السياسية، التي تراقب أداءهم بدقة، والتي عززتها زيادة الاهتمام من جانب وسائل الإعلام عبر التدقيق في الوعود الانتخابية، وأداء السياسات العامة والإدارات، ومصداقية التصريحات ومدى جدواها في الحكومات الجديدة، لا سيما التي تعقب أنظمة متجذرة كما في حالة الحكومة الانتقالية في سورية بعد سقوط نظام بشار الأسد، لا سيما وأن الناشطين السياسيين لعبوا دوراً في المطالبة بمزيد من المسؤولية الاجتماعية وتعديل الموقف الأخلاقي للقادة فيما يتعلق بحقوق الإنسان، والحريات المدنية، والعدالة الانتقالية وغيرها من المطالبات. وفي الوقت نفسه، أدى المناخ السياسي النشط إلى زيادة حساسية القادة تجاه سمعتهم السياسية وقيمتها لدى الجمهور، على اعتبار أن السمعة الجيدة تشكل أصلاً هائلاً من أصول الشعبية، ومع ذلك، فهذه الشعبية قد تتعرض للتآكل بين عشية وضحاها بسبب التهم السياسية المرتبطة بأسماء بعضهم، أو وجود الأدلة على سوء الإدارة، أو حتى المنافسة مع قادة أكثر كفاءة أو جاذبية أو أكثر فهماً للحالة.
في بريطانيا، تضررت صورة حزب العمال الجديد بفعل الهجمات الإعلامية المستمرة، التي طاولت توني بلير، والتي شملت فتح ملفات حرب العراق، والاعتقاد بأن بلير كذب بشأن أسلحة الدمار الشامل حينها ومساهمة حكومته بغزو العراق وارتهانه بالسياسة الأميركية وتمويل سجن غوانتنامو. وكان بلير محورياً في تصورات الناخبين البريطانيين، لكن شعبيته تراجعت بمرور الوقت، حيث انتقل من الترحيب الحماسي به كقائد شاب إلى الشعور بالاستياء والغضب من نهجه الأكثر صرامة في وقت لاحق، وزجّ بريطانيا في حروب خارجية. لكن الحملة الدعائية وظهور بلير المتكرر على شاشات التلفزيون في المدة التي سبقت الانتخابات، والتي حرص فيها على الظهور مع محاورين عدوانيين لاستجوابه وإجراء حوار مفتوح دون قيود، والاستخدام الناجح لأدوات حزب العمال في إعادة رسم صورة بلير أمام البريطانيين ساهمت كلها عبر التشديد على بلير أن ينتقل في خطاباته من "كل شيء للجميع"، إلى "أنا أعلم ما هو الأفضل"، إلى "لا يمكننا أن نفعل هذا إلا معًا"، والتركيز على مبدأ الشراكة مع إظهار القطيعة مع الماضي والتفرد بالرأي والسلطة، وتركيزه على وجود صديقه في الحزب جوردون براون، كلها ساهمت في أن تكون نتيجة الانتخابات فوز حزب العمال.
ما حصل مع طالبان في أفغانستان كان مميزاً أيضًا إذ سهل تحوي خطابهم العنيف وتغيير ملامح الحكم السلفي المتطرف، وصولهم إلى الحكم بعد الانسحاب الاميركيّ من أفغانستان؛ وقدموا للقنوات الدبلوماسية وعودًا وتطمينات حول حقوق المرأة ورعايتها والحفاظ على حقوق المدنيين وحرياتهم وعدم فرض القوانين بقوة السلاح؛ وبهذا تغيرت صورتهم أمام العالم.
في السياق السوري، كان من المثير للاهتمام تحول قائد إدارة العمليات العسكرية باسمه الحركي "أبو محمد الجولاني" من قائد هيئة تحرير الشام والقوة العسكرية الضاربة في معركة ردع العدوان التي أطاحت بنظام بشار الأسد في سبتمبر 2024، إلى "أحمد الشرع" الاسم الحقيقي ليكون قائداً سياسيًا ودبلوماسيًا تتوافد لمصافحته ولقائه وفود رسمية حكومية وقيادات أحزاب، لتمد يدها إلى سورية الجديدة ما بعد الأسد. انتقل الشرع من صورة القائد العسكري باللباس "الزيتي" الذي أدار فيه المعركة ضد نظام الأسد، وتنقل فيه في أحياء دمشق، وهو يبث رسائل الطمأنة والأمل بعد حكم يزيد عن 50 عامًا من قبل عصابة الأسد عايش فيه السوريون الرعب بقبضة حديدية قطعت أوصال المجتمع، إلى مرحلة الرجل السياسي باللباس المدني والهيئة الرسمية القادرة على إدارة المرحلة الانتقالية بفعل السياسة والدبلوماسية.
يقدم الشرع نفسه اليوم بعد هذا التحول كقائد مخلّص عبر تبني خطاب مرنٍ فيه من رسائل الطمأنة وحفظ مكونات المجتمع السوري ما يجعل من المرحلة الحالية سليمة وسلسة إلى حد بعيد، لا سيما وأن هذه المرحلة تتطلب فعليًا إعادة بناء صورة القائد السياسي مع مزيج من الرسائل الاستراتيجية، والتغييرات البصرية (الهندام وتسريحة الشعر وتعابير الوجه ونبرة الحديث)، وإعادة ضبط السياسات والخطابات، وترتيب أماكن الزيارات والتنقلات الميدانية. يتم هذا مع تسهيل وصول إلى شريحة أكبر من الناس عبر ترتيب اجتماعات مع إعلاميين ومؤثرين سوريين وعرب يدعو من خلالهم إلى العودة إلى سورية الجديدة؛ ويتيح بذلك الحضور المدروس على وسائل التواصل الاجتماعي متجاوزًا الوسائط التقليدية للوصول. من المهم جدًا الحديث عن المشاركة المجتمعية للقائد أحمد الشرع بوصفه قائدًا للمجتمع والدولة في المرحلة الحالية واندماجه في عدة مناسبات شعبية كعزاء لشخصيات دينية إسلامية واستقبال العديد من الوفود المحليين والنشطاء والفعاليات المدنية والمجتمعية الراغبين بلقاء القيادة وفق ما تتطلبه المرحلة الحالية، ما يعكس رغبة حقيقية في التغيير والانتقال من صورة القائد العسكري إلى القائد السياسي الدبلوماسي الساعي وراء التغيير الحقيقي في البلاد.
رغم أهمية إعادة بناء الصورة، فإنها تأتي مع تحديات كبيرة. أهمها ما يراه الإعلام في هذا التغيير، وكيف يتم تداوله وفق إيديولوجيا وأجندات متنوعة. في المحصلة، يلعب الإعلام وحملات إعادة بناء الهوية الجديدة للدول والقيادات دورًا حاسمًا في هذه الجهود، حيث يمكن للتغطية الإيجابية أن تدعم الرسائل الجديدة، وتساهم في تعزيز صورة جديدة للحكم في البلاد؛ في حين قد تقوّض التغطية السلبية والمؤدلجة جهود إعادة بناء صورة السياسيين، ويعيدوهم إلى دائرة عدم الثقة بناءً على تصور من جانب واحد يفتقر المهنية والتدقيق.