قصص غزة.. قصص اختراع الأمل
لم أشعر في حياتي بهذا الشعور المؤلم المبهج الغريب المختلط المعقد كما شعرت وأنا أحرر وأعيد كتابة هذه القصص باللغة الفصحى.
شهران كاملان وأنا أتمزق بين حسرة قلب وبين إعجاب وافتخار وحب شديد لهؤلاء الأنقياء البسطاء الذي حكوا بصدق كبير عن حياتهم قبل وبعد جحيم غزة الذي هزّ العالم.
عمل رائع قامت به الشابة تسنيم شتات ابنة خان يونس، (26 عاماً) وهي حاصلة على إقامة فنية من المتحف المحظور، وفي هذه الإقامة قامت تنسيم بجمع هذه القصص من أفواه الناس، عن تجربة النزوح (ما قبل الحرب وما بعدها)، وقامت بالتجوال بين خيام الناس النازحين وتسجيل حكاياتهم بلغتهم العامية العفوية، ولعل أجمل ما في هذه القصص هو غياب الكلاشيهات والشعارات والبلاغة فيها، تلك الأساليب التي يستخدمها المتفذلكون الراكضون نحو الضوء والكاميرات، والسياسيون الباحثون بهستيريا عن المجد الشخصي والمناصب والمال.
هنا في هذه الحكايا تظهر قصة غزة المؤلمة حيث التهجير عن أغلى الأمكنة (البيت)، لو عددنا كلمة (بيت) في القصص كلها لأدركنا كم هو مخيف وفجائعي أن يجبر النازح على ترك بيته، والأشد فجائعية أن يظل هذا النازح يحلم في العودة إلى بيت هو يعرف أنه صار ركاماً.
الصمود والفكاهة والصبر والذهن الابتكاري هذه أربعة دروس نتعلمها من قصص هؤلاء العظماء البسطاء الذين لا يتذكر أسماءهم أحد، من أجلهم جاء هذا الكتاب ليتذكرهم تاريخ وناس بلادهم، هم غزة كلها، هم جوهر نبل جمال غزة وحكمتها وصبرها، أول شيء يفعله المهجر الغزاوي هو التحرك فوراً لتأمين لقمة عيش أولاده، لا أحد يجلس في الخيمة يلطم ويبكي، والنساء أيضاً لعبن دوراً كبيراً في مشاركة الرجل البحث عن لقمة الحياة، ولو أردنا دراسة دور النساء في هذه القصص لأدركنا أننا أمام بطلات سيكتب التاريخ دورهن بأحرف من ضوء.
هذه قصص مهمة على صعيد أرشفة قصص الناس التي لن ينساها أحد، فهي قصة البلاد كلها فلسطين وهي تعيد تشكل نفسها من جديد، على نفس الأسس الوطنية الثابتة: الحرية والكرامة والسيادة الوطنية.
ما قبل الحرب وما بعدها هنا مساحات القصص، التي تملأ القلب حزناً، وحيرة، فمن كان يمشط شعر ابنته قبل الحرب بثوانٍ لم يعد يفعل ذلك بعد الحرب فهناك أولويات أهم، وهذا صار من الكماليات.
سعدت جداً بهذا العمل الذي نالني منه نصيب من ألمه، فمن شدة تأثري بالجو الصقيعي العام للنزوح، قد كنت واحداً من نازحي الخيام الذين انطلقوا فوراً لتوفير لقم العيش للأولاد. ليس هناك أسرع من الغزاوي في اختراع طرق عيش كريمة للعائلة حين تضيق الطرق أو تنغلق.
هذه قصص اختراع الأمل، الأمل الذي يبدو مستحيلاً، وسط زلزال غزة الذي لم يشهد له العالم مثيلاً.