يعودون بالشوق إلى قبور أمهاتهم
الرغبة في الحياة هاجس لكل الفلسطينيين، كلما تعرضوا للموت والقهر أكثر كلما أكدوا على انهم جديرون في الحياة، فمسيرة الشعوب تحدد ملامحها وتظهر ما بها من سمات.
في الخامس والعشرون من الشهر أفرج الاحتلال عن 200 من الاسرى القابعين في سجونه في إطار التبادل الذي تم مع غزة، انه رقم قد يراه البعض قليلاً، ولكنه في الثنايا بحر واسع من التفاصيل التي تمتد من اقصى الأرض الى أقصاها، مائتي اسير فقط، امضوا من أعمارهم ما مجموعة قرابة ثلاثة آلاف عام.
هذه الالاف ليس عداد عابر ولا ليالي بلا تفاصيل، انه السيل الجارف من تفاصيل البشر الذين عادوا من رحلة الموت الى فضاءات الحياة، استمعوا إليهم ستجدون آلام المسيح المصلوب كل لحظة، ولكنهم مزروعون بيقين الانبعاث والامل، فلا سجن قادر على اجتثاث الحياة من تربة الروح حينما تكون معمدة بيقين الانتماء لفكرة نبيلة، تعبر عن ضمير الإنسانية التي تذبح كل يوم في مواجهة ظغيان اهل الحروب وصانعيها.
بالأمس رائد السعدي من جنين وبعد 37 عاماً من الاعتقال وفور عودته ذهب الى قبر امه وابيه، جلس بخشوع الواقف في محراب الصلاة ، بكل سكينة واقتراب الروح ، بكاها بعمق وقلب في جوارحه كل الحنين الذي سكن تفاصيل جسدة على مدار سنين اعتقاله الطويلة ، وفي مشهد اخر كان الأسير محمد زايد من قرية بيت لقيا واقفاً هو الاخر على قبر امه وذرف من الدموع ما يحمل ضخرة كبيرة الى اعلى الجبل وخاطبها بكل حرقة وابلغها بعودته التي لم تكتمل لغيابها، وقال" يما لقيتك في كل الناس" وختم زيارته لقبرها بقوله "خليني ابوس ترابها" كم هو مؤلم ان تجد من يصمد امام آلة قتل السجان 3 عقود بكل تماسك وفي حضرة قبر امه يكون على شاكلة أخرى، يعود طفلاً يبكيها بلا توقف في تعبير انساني عميق عن رغبة العناق والارتماء في حضنها.
فهل هناك ما هو أكثر اتساعاً وحناناً من حضن ام أمضت كل عمرها تتنقل بين بوابات السجون لترى من تحب للحظات، انها رغبة الحياة على الإبقاء على صلة الامومة والانتصار على السجون اسوء اختراعات البشر.
قبل سنوات أفرج عن الأسير محمود جبارين من مدينة ام الفحم بعد ان أمضي ثلاثون عاماً في الاسر وعلى قبرها قال لها مخاطباً بكل حرقة وبين سيل الدموع " شاب الدمع في عيونا" أي توصيف هذا الذي يختزل في حروفة رحلة مجنونة من الوجع، وشوق لعناقها لا توصفه كل المعاجم.
لؤي العويوي واحداً من الاسرى الذين أفرج عنهم وابعد الى خارج البلاد، أمضي عشرون عاما ً في الاسر وكان محكوم 5 مؤبدات وفي اول اتصال مع اهله بعد انقطاع عنهم استمر طيلة أيام الحرب التي امتدت الى خمسة عشر شهر وفي اول كلمة نطقها قال " امي عايشة ولا ميتة “، فموت الأمهات هاجس مؤلم يسكن رأس كل اسير في رحلة البحث عن حريته، التي هي حريتنا جميعاً.
كريم يونس أمضي أربعون عاماً في الاسر ولحظة الافراج عنه ذهب الى قبر صبحية والدته، تلك المرأة التي أمضت أربعة عقود من عمرها تلاحق امل عناقه في حريته، زارته أكثر من 700 مرة في سجنه بلا كلل، صارعت كثيرا للحفاظ على حياتها ولكنها ماتت قبل 8 شهور من تحرره، واخذت معها كل الشوق والحنين لعناقه لعله يبعث معها يوم القيامة، وعلى قبرها بكاها وقال متحسراً" اختارت ان تراني من السماء لقد حملتها اكثر من طاقتها".
حينما يعود الاسرى الى منازلهم بعد سجون الموت فهم يعودون على عكس طبيعة البشر فالبشر يذهبون من الحياة الى الموت اما الاسرى فيعودون من الموت الى الحياة، انه الانبعاث الجديد والميلاد المتجدد ليس من رحم الام هذه المرة، بل من مكان آخر فلذلك تكون قبور الأمهات بمثابة رحم الحياة التي يأخذ الأسير منه شهيق الانبعاث ليمضي الى ما تبقى له من العمر على امل ان تطول به الحياة قليلا ليعوض الفقد الذي عاش.
حينما نرى حرية أي اسير لا يغرنكم بريق الفرح على محياه، ففي تلافيف الروح مساحات من الفقد تكون كاللهيب، لذلك تكون زيارات قبور الأمهات مكاناً لإعادة التوازن المطلوب، ففي تلك الأماكن يعاد صياغة الرغبة في الحياة، ومحطة للامساك بما تبقى من الامل كشرط للاستمرار في الحياة.
على قبور الامهات يكون الحنين، وتفاصيل العبور على الدرب الطويل التي تخطاها الأسير في رحلة البحث عن يوم آخر بلا قيود بلا رقابة سجان، متحرراً من تفاصيل الطغاة، لذلك من واجبنا ان لا نغفل عن زرع باقات الورد على قبورهن حتى يعود الأبناء فيجدو من خضرة الحياة ما يعينهم على تجاوز الفقد ويلمسوا ان قلوب امهاتهم ما تركت لتجف تحت التراب بلا ثمن، بل انها أزهرت في باقات تشع الحياة وتعطي لعطائهم معنى، فيعودوا الى سيرة الحياة.
في بلادنا لكل شيء معناه، نحن الحالمين بلا حد.